"إن أنهر الصفاء لا تَفِدُ على القلب إلا بتعميق الصلة بالله" لابد من طاقة روحية تعينك على النهوض بتحقيق الهدف, فالطاقة التي تجعل العبد منتجا في حياته ناجحا في عمله مبدعا في كل شأنه متميزا عن أقرانه لا بد من أن تكون هذه الطاقة قوية لذلك قالوا وراء كل إبداع طاقة روحية واتصال وإخلاص، وقد أوجب الله علىَ النبي والصحابة في بداية حملهم للدعوة قيام الليل كله، ثم نزل التخفيف بعد ذلك ؛ فالذكر عامل من عوامل القوة قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)(4) لماذا(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً(5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً)(6 ) المزمل. إن الاتصال بالقوة العليا تجعل القلب يقض وتُصَفِّيه وترققه وتجعله في إشراق دائم، فلا تلتبس عليه الرؤية في دروبه ولا الوضوح في مسالكه التي يسلكها إلى الله في هذه الحياة، فإن غفل عن الذكر بأنواعه، خف هذا الإشراق الذي يولد حلاوة المعرفة.وخصوصا الذي ينشغل بأمر الخير المجهد مثل الصراع السياسي أو القتال أو الدعوة أو التجارة وطلب العيش أو غير ذلك،ربما يضعف بقدر ضعف صلته، غير أنه وإن قل عنده ما ذكرناه من الزاد العظيم, لكنه يجد إشراقا من نوع آخر تفتح له ميادين المعرفة في الفنون التي انشغل بها أكثر كل بحسب انشغاله وبقدر إخلاصه وبذله واحتسابه على اختلاف الميادين سيجدُ نجاحا وحلاوةً وانشرحاً. والتوازن هو المطلوب .. والأصل كلما كثرت الهموم والمسؤولية يزيد اتصال العبد ويزداد قربه وتزيد نوافله وأوراده, حتى يستطيع القيام بمسؤولياته,كطاقة تعينه وتخفف عنه،عندها لا تخالطه الضبابية في عمله ولا يفارقه الصفاء في قلبه ولا الإشراق في مسيرته ودربه، ولن يتعثر في شأن من شئونه مهما كان صعباً ؛ لأن الله يفتح له بمفتاح المعرفة ما يفك به مغاليق ما عسر عليه، فيصبح كل شيء ميسر له. إن للطاقة أسراراً لا يعلمها إلا من خاض بحرها وركب زورقها. من همَّ بشيءٍ أكثرَ من ذكرهِ لذلك قالوا: من همَّ بشيء أكثرَ من ذكرهِ، ومعظم المسلمين اليوم تغلب سيطرة شهواتهم عليهم، مثل: المال والجاه والولد وغير ذلك من متاع الدنيا الزائل، فيدور عليها همهم ويطول بها ذكرهم وانشغالهم، فلا تجد الآخرة مع هذه المزاحمة إلا القليل الذي لا يرقى لتذوق العبادة، فيكون اتصالهم بالله باهتاً وضعيفا لا حرارة فيه، فالشهوة والغفلة وعدم التوبة من الذنوب، تجعل القلب كليلا مغمورا مصفداً مهموماً، لا يجد القلب مع وجود هذه الأغلال حلاوة الإيمان ولا الصفاء الذي تنشرح له النفس وتطيب ؛ لأن الصفاء والإشراق له طرقه التي تؤدي إليه، منها إتقان العمل وإخلاصه لله واستشعار الأمانة والمسؤلية والقيام بها على الوجه الأمثل. وترك ماشغل القلب من التوافه والأوهام والهموم. وعليه فإن العبد الذي يرغب بقوة الاتصال بالله والدخول في حلاوة مناجاته والأنس به، عليه أن يدور تفكيره وهمه في ذلك، وسيجد ما يؤمله بعد طول مجاهدة للنفس وبعد فطمها عن عوائدها، وبعد تدريبها على الفضائل والذكر وتأمل سير الصالحين والخشوع في الصلاة والتفكر في الكون والحياة والقيام بسائر الأعمال الصالحة التي تكسب العبد معرفة الله وتبين له صفاته، وغير ذلك من الأخلاق والفضائل التي يصل بها إلى مرتبة الأصفياء الذين يفتح الله عليهم من أسرار معرفته وفهم سننه ما يثبت به قلوبهم ويشرح به صدورهم ويسددهم في أقوالهم وأفعالهم وسائر حياتهم، عندها يجد القلب صفاءه وإشراقه.إذا فالصفاء يأتي من تفريغ القلب إلا من الله لذلك تستغرب الحكمة الثالثة عشرة لابن عطاء الله وتعجب ممن يطلب ذلك وهو منشغل بصور المخلوقات عن صفات من صورها.تقول الحكمة الثالثة عشرة: « كيف يشرق قلبٌ صور الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟ أم كيف يطمع أن يدخل إلى حضرة الله، وهو لم يتطهر من أدران غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته » قد يخلو المرء مع نفسه في عزلة طالباً صفاء قلبه، وإشراقه ؛ حتى ترد إليه الخواطر الإيمانية، وحتى يتذوق حلاوة الحضور والخشوع مع الله، وحتى يتأمل بعين البصيرة الحقائق والأسرار في الكون بوعي دقيق، وشعور مرهف، يوصله إلى ملكوت هذا الوجود بحق، وقد يغوص في تأمل آيات الكون معظماً لصفات الله وأسمائه فلا يجد هذا المتأمل أثراً لذلك ولا يتحقق له ما يرغب ويؤمل، فيقول:ها أنا قد خلوتُ فلم يتحقق النفع للقلب، ولم يأتني الإشراق، فأين من يزعمون بأن الخلوة جلاء للقلوب ودواءٌ للأرواح وعافية من الآفات والأمراض وباب معرفة للمولى عز وجل؟! الجواب: ما قاله ابن عطاء الله في هذه الحكمة: « كيف يشرق قلبٌ صور الأكوان منطبعة عليه » كيف يمكن لعبد خلا في عزلة، يريد إشراق القلب، والهموم، والأحداث، والصور، وعلائقه المتشعبة مرسومة في ذاكرته، ونفسه متعلقة بشهواتها، فالدنيا مقيمة في عقله وقلبه لا تفارقه، وإن كان فارقها بجسده زماناً ومكاناً، فهي في فكره تدور, وفي خلده تتردد، يدخل في الصلاة، فيوسوس له الشيطان بها، ويفسد عليه صلاته, يدخل في عزلة يريد النفع لقلبه، فتتزاحم على قلبه فيتعلق بها وتشغل فكره وقلبه، أنَّى لهذا القلب المملوء بهذه الصور وبهذه العوائق والعلائق أن يشرق !! إن القلب لن يشرق إلا إذا تخلى عن هذه الصور المطبوعة، فقد يكون المؤمن في عزلة وصور الأكوان معه فلا يجد لقلبه نوراً ولا إشراقاً، وقد يكون مختلطاً بغيره وقلبه موصولٌ مستغرقٌ بربّه فيجد حلاوة ذلك النور ويجد الإشراق والانبساط والسعادة والطمأنينة _ مع أنه مختلط بغيره يعارك الحياة _ والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، نسأل الله قلوباً حيَّة حيثما كنّا، سواءً في عزلة أم في خلطة.فالأنبياء والصحابة والصالحين، كانوا يخالطون الناس ولا تفقدهم المخالطة شهود خالقهم والشعور به والاتصال معه ؛ ذلك لأنهم حرسوا القلوب من غوائلها وشددوا طوق المراقبة على مداخلها، وحاصروا الشيطان من أن ينال منهم، فتعبدوا لله في خلطتهم و عزلتهم على السواء، فكانوا على اتصالٍ بالله _ عز وجل _ على كل أحوالهم. "إذن فكثرة الهفوات هي السبب في الوقوع في الغفلات, والاستغراق في الغفلات هو السبب في الاستسلام لأسر الشهوات، والاستسلام لأسر الشهوات هو السبب في هيمنة صور الأكوان على القلب، وانتشار الران عليه. ومن ثم فإن العلاج يبدأ بضرورة التغلب على المشكلة الأولى، وهي مشكلة الاستسلام للهفوات والآثام، نعم يجب أن تتغلب على هفواتك أي على معاصيك بالابتعاد عنها والتطهر منها، فإذا تخلص العبد بهذه الطريقة من آفات الهفوات والمحرمات وسار ثابتاً مستقيماً في طريق الطاعات، فإن غاشية الغفلة ترتدّ عنه وسيصحو شعوره وضميره إلى مراقبة الله - عز وجل - وذكره، فإذا تحرر من الغفلة التي كان مكبلاً بها، فقد آن له أن يدخل حضرة الله تعالى، على حدّ تعبير ابن عطاء الله. وهذا التعبير منه إحالة إلى قول رسول الله r وهو يعرّف الإحسان: ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) أي تنجذب بمشاعرك من الدنيا وأحوالها وآثارها، فتغيب عنك غيبة تامة ولا يبقى في إحساسك إلا الشعور بأنك في حضرة الله وبين يديه تناجيه بما تخاطبه به من قرآن أو ذكر أو دعاء كأنك تراه ".. إن صور الأكوان، والشهوات والغفلات وعدم التوبة من الهفوات، كل ذلك عوائق تحجب القلب عن الإشراق والرحيل إلى الله والدخول على حضرته وتلقي أسراره والتخلص من هذه الآفات يجلب كل ذلك.يقول سيد قطب في ظلاله:(حين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح، ويتوجه بالتسبيح، فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى، وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون، الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية الساربة في ضمير هذا الوجود، النابضة في كل متحرك وساكن، وفي كل شيء في هذا الوجود)1.كما أن شهود فضل الله ونعمه وأقداره وتأمل سننه و تصريفاته للكون والأنفس والحياة, وشكر نعمه والصبر على بلائه كل ذلك يقوي الصلة به ويؤهل العبد لتلقي أسراره والدخول في حضرته كما يسميها ابن عطاء، اللهم اجعلنا في اتصال بك بلا انقطاع ووفقنا لطاعتك وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واجعلنا محدثين بعلم من لدنك ينفعنا في الدارين والمسلمين إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير, آمين يا رب العالمين. لله كم نعمة لم يوفها شكرِي وكم يضيق بألطاف البلى صبري آلاءه لستُ أحصيها لثانية فكيف باليوم والأزمان والعمر فكل خير يشوق النفس يمنحني أضعاف ما أملت نفسي من الخير وكل شر يُخيفُ النفس يدفعهُ عني إلهي فلا أخشى من الشر فما أقول لربي غير معذرةٍ عما جنيت وهل يمحو الخطا عذري يا رب زدني من الآلاء أجزلها واجعل فؤادي حفيا دائمَ الشكر