محمد المخلافي عصبتُ رأسي بشالي الصوفي وخرجتُ من البيت وسط برد صنعاء الذي يتسلّل إلى العظام. كانت الساعة تقترب من الثامنة مساءً، والمدينة تغفو على أضواءٍ خافتةٍ وحركةٍ متقطعةٍ من المارّة. مضيت بخطواتٍ مثقلة نحو فرزة عدن في باب اليمن، حيث كان ينتظرني صديقي وزميلي في العمل يحيى حميد الفقيه. وبعد دقائق صعدنا الحافلة التي ستقلنا في رحلةٍ طويلةٍ نحو عدن، المدينةِ البعيدةِ في جنوباليمن، على بُعدٍ يقارب ثلاثمئةٍ وثمانيةٍ وسبعون كيلومترًا من صنعاء. كانت ملامح الركّاب تُخفي وراءها حكاياتٍ من التعب والرجاء. انطلقت الحافلة ببطءٍ تخترق الشوارع شبه المظلمة، وما إن غادرنا حدود صنعاء حتى أوقفتنا أولى نقاط التفتيش. أخذ الجنود بطائقنا الشخصية، وسجّلوا بياناتنا، وسألونا عن سبب سفرنا إلى عدن. تكرّر المشهد ذاته عند كل نقطة تفتيش، وإن كان بشكلٍ أخفّ، حتى تجاوزنا مدينة ذمار، حيث فوجئنا بطابورٍ طويلٍ من السيارات المنتظرة في صمتٍ ثقيل. بقينا هناك قرابة ساعتين قبل أن يُسمح لنا بالعبور. تابعنا الطريق نحو يريم، ومنها اتجهنا الى نقيل سمارة، وهو سلسلة جبلية تمتدّ نحو اثني عشر كيلومترًا. كان الطريق ملتويًا وضيقًا، محفوفًا بالهاويات من كل جانب، وكان كل منعطفٍ يخطف أنفاسنا. ثم بدأنا الانحدار نحو الدليل، وادٍ فسيحٍ تتخلله وديان صغيرة، فيما يتسلّل صقيع الليل من نوافذ الحافلة، يلسع وجوهنا المتعبة. واصلنا السير حتى سحول بن ناجي الممتدة إلى مشارف مدينة إبّ. هناك، في مدخل المدينة، استقبلتنا أضواء البيوت المبعثرة على سفوح الجبال، كنجومٍ متعبة تحاول ألّا تنطفئ. شعرت، وأنا أراقب ذلك المشهد، وكأنني أطل على مدينة نائمة. كانت البيوت المرتصّة على جانبي الطريق تبدو كأنها تتنفس بهدوء تحت لحاف البرد، ورغم صقيع الليل الذي يتسلّل من كل ناحية، أحسست بدفء الحياة في داخلها. أضواء خافتة خلف الستائر، وأنفاس ساكنيها تتسلل عبر الفتحات الصغيرة للنوافذ، فتمنح المكان حياةً خفية، كأن المدينة كلها تنام على نبضٍ واحدٍ. كنا مرهقين، تتناوبنا لحظات النعاس واليقظة؛ نغفو أحيانًا ونصحو أحيانًا أخرى على اهتزاز الحافلة وهي تشق طريقها بين المنعطفات الملتوية. وعندما انحدرنا عبر نقيل السيّاني، بدأ ضوء الفجر يتسلل تدريجيًا، ومع اقترابنا من مفرق الذِّكرةالقريب من الحوبان، بدأت ملامح النهار تتضح أكثر. عندها، تسلّلت إلى ذهني ذكريات الطريق ذاته، حين كنت أسلكه نحو قريتي في مخلاف شرعب عبر خط الستين، في وقت لا يتجاوز الساعة. أما اليوم، فبدت الرحلة وكأنها ممتدة بين زمنين: زمن مضى بخفة، وزمن آخر حملنا فيه ثقل التعب والحنين. كم أحنّ إلى قريتي التي احتضنت أجمل أيام عمري... أتذكّر آخر زيارة لي قبل ثماني سنوات؛ حين وصلتُ إلى هنا، كان أخي أحمد ينتظرني على دراجته النارية. وما إن سلّمت عليه حتى انطلقنا مباشرة عبر طريق مخلاف العدين، ولم تمضِ نصف ساعة حتى وصلنا إلى القرية. وما هي إلا لحظات، حتى وصلنا إلى مفرق الحوبان – عدن. فتحت النافذة وحدّقت بعيني نحو مدينة تعز، مدينتي الأولى، التي تعلّمت في شوارعها ملامح المدينة. كانت آخر زيارة لها عام 2009، وها قد مضى ما يقارب ستة عشر عامًا، كل ذلك بسبب الحرب. عند أولى نقاط التفتيش المؤدية إلى المدينة، أُجبرنا على النزول من الحافلة. كنّا مرهقين، ولم يكن هناك أي اعتبار لكبار السن أو للنساء؛ فكان نفس الروتين المرهق يتكرر: أخذ البطاقات الشخصية، ثم الاستجواب الذي دام نصف ساعة. واصلنا طريقنا نحو دمنة خدير، وقبل مدخل مدينة الراهدة انحرفت الحافلة يمينًا. وما هي إلا دقائق حتى بدأنا صعود نقيل الزربي في حيفان والأعروق، حيث كان الضباب الكثيف يكسو القرى المتناثرة على الجبال. كانت الطريق وعرة، خصوصًا عند المنحدرات المليئة بالحفر والمنعطفات الخطيرة، لكن الحافلة واصلت مسيرها بلا توقف. وعبرنا بعد ذلك سائلة الخُزجة. قبل مدخل مدينة لحج، في طور الباحة، توقفنا على جانب الطريق لاستبدال العملة من الريال المتداول في مناطق الشمال إلى العملة المستخدمة في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية. حتى شبكة الهاتف توقفت عن العمل، فسألت صديقي يحيى عن السبب، فأخبرني أن نظام "الفولتي" الخاص بشبكة يمن موبايل غير مفعّل في مناطق الجنوب. خرجنا من سائلة الخزجة لندخل طريقًا معبدًا يمتد أمامنا خاليًا من المنعطفات، فانطلقت الحافلة بسرعة جعلتني أشعر للحظة أننا نطير. عبرنا النقاط الأولى لمدينة لحج دون توقيف، حتى وصلنا إلى مشارف عدن. هناك أوقفونا مجددًا وأنزلونا من الحافلة، ولم تسلم النساء من التفتيش. كان بين الركاب امرأة كبيرة في السن مصابة بمرض السرطان، ومعها ابنها، وأخرى برفقة أطفالها، بدت متعبة إلى حدّ القيء، ومع ذلك لم يراعي أحد حالتهن. فجأة، ظهر رجل ملتحٍ، يبدو من هيئته أنه ينتمي إلى جماعة السلف، سلّم علينا بنبرة حازمة وبدأ يتفحّص الوجوه. لفت انتباهه شاب في الجهة المقابلة، شعره طويل ويلفّ رأسه بشال، فأشار إليه قائلاً: "أنت داعشي!"، ثم أمر جنوده باقتياده إلى المكتب للتحقيق معه. وأخيرًا، وصلنا إلى مدينة عدن عند الحادية عشرة والنصف ظهرًا. بدا التعب واضحًا على وجوهنا بعد رحلة طويلة ومرهقة، ولم يكن لنا نصيب من وجبة الفطور. تواصلنا مع صديقنا علي شبير وأخبرناه أننا في طريقنا إلى مكتب الجوازات في خور مكسر. رحّب بنا وقال إنه سيكون في انتظارنا عند البوابة. وصلنا قبيل أذان الظهر بقليل، وسلّمناه الجوازات لبدء إجراءات تغيير المهنة. كان المكان ممتلئًا بالمواطنين القادمين من مختلف المحافظات الشمالية؛ بدا عليهم التعب، ويرتدون ملابس غير مرتبة ويحملون حقائب مهترئة تشبه الأكياس البالية. خلال نصف ساعة فقط أنهينا المعاملات، دفعنا الرسوم، واستلمنا الإيصالات الخاصة باستلام الجوازات لاحقًا. تركناها مع علي ليقوم باستلامها وإرسالها إلى صنعاء حينما تجهز. كنت أشعر بهبوط شديد، فقلت لعلي: "نريد أفضل مطعم زربيان في كريتر." ابتسم علي وأخذنا إلى أحد المطاعم في حي الميدان. تناولنا الغداء بشراهة، إذ اجتمع الجوع مع لذة الطعام، فغمرتنا لحظة دفء حقيقية بعد عناء الطريق. بعد انتهاء الغداء ودّعنا علي، ثم تواصلنا مع صديقنا عُدي القاضي، الذي رحّب بنا بحرارة ودعانا للقاء عند جولة البط في خور مكسر. كانت أشعة الشمس حارقة، ومع ذلك كان الجو يحمل اعتدالًا لطيفًا يمنحنا شعورًا بالراحة، على عكس ما هو معتاد في عدن خلال فصل الصيف. جلسنا في أحد المطاعم نرتشف العصير مستمتعين ونتبادل الأحاديث مع عدي، في وقت قصير لا يتجاوز ربع ساعة. حاول عدي إقناعنا بالبقاء عنده حتى اليوم التالي، لكننا رفضنا بلطف، موضحين أننا مشغولون وأننا نرغب في العودة إلى صنعاء. بعد وداع دافئ، غادرنا المطعم متجهين نحو فرزة صنعاء في مديرية القاهرة، لنستعد لرحلة العودة الطويلة. كنا نودّ السفر عبر خط الضالع – صنعاء لأنه الأقرب والأسهل، إلا أن الوقت كان متأخرًا، وبسبب إغلاق نقطة مريس عند مدخل مدينة الضالع عند الساعة الرابعة والنصف عصرًا، والتي لا تُفتح إلا في السادسة والنصف صباحًا، قررنا السفر عبر الطريق البديل الذي أتينا منه عبر جبال حيفان في تعز. بحثنا أكثر من نصف ساعة عن حافلة، حتى صادفنا سيارة صغيرة. أخبرنا السائق أنه سيتجه مباشرة إلى صنعاء، فصعدنا إلى السيارة وجلسنا قرابة ساعتين ننتظر السائق، الذي كان في المكتب يحاول الحصول على تصريح مرور (كوشن). كانت السيارة هذه المرة مريحة. جلستُ في المقعد الأوسط إلى جانب صديقي يحيى، شابٍّ يتمتّع بأخلاقٍ عالية، متميّزٍ في عمله، هادئِ الطباع، يهتمّ بصحّته ويمارس الرياضة بشكلٍ مستمرّ. بينما جلس خلفنا جمال، شابٌّ من تعز، كان في قمّة الكيف يمضغ القات وفضّل أن يتّكئ ويواصل مشاهدة المسلسل التركي. أمّا في المقعد الأمامي فكان يجلس خالد الصريمي، في بداية الخمسينيّات من عمره، من رداع، رجلٌ لطيف لا تخلو ابتسامته من روح الدعابة التي خفّفت عنّا وطأة السفر. وإلى جانبه كانت الطفلة صابرين، ابنة السائق محمد الشامي، ذات الاثني عشر ربيعًا، تملأ السيارة بحيويّتها وضحكاتها البريئة. انطلقنا من عدن عند الخامسة مساءً، نقطع الطريق الطويل نحو صنعاء. كان السائق يبدو عليه الإرهاق، وعيناه تشي بقلة النوم. أخبرنا بصوتٍ مبحوح أنه لم يذق طعم الراحة منذ أربعة أيام، لم ينم خلالها سوى بضع ساعات متقطعة. يعمل سائقًا لهذه السيارة بأجرٍ محدود، يسعى جاهداً لجمع الرسوم الدراسية لابنته صابرين، تلك الطفلة التي رافقته في هذه الرحلة، تملأ صمت الطريق بضحكاتها البريئة، غير مدركة لحجم العناء الذي يتحمله والدها من أجلها. كان يقود السيارة بسرعةٍ جنونيةٍ على خط طور الباحة، وقد أسدل الظلامُ ستاره على الأفق. فجأةً، صرخ بصوتٍ مرتجفٍ قائلاً إنه رأى سيارةً تنقلب إلى الوادي المحاذي للطريق. على الفور، خفّف من سرعته، واستدار عائدًا إلى المكان الذي ظنّ أن الحادث وقع فيه. شعرتُ بالخوف يسري في جسدي، بينما خيّم الصمتُ والذهولُ على الجميع. اقتربنا ببطءٍ من حافة الطريق، نحملق في العتمة، فبدا لنا جسمٌ يشبه سيارةً مقلوبة. توقفت أنفاسنا، وتخيّلتُ المشهد المروّع للركّاب العالقين في الداخل. اقتربنا من المكان حتى بدأت ملامح الشيء تتضح تحت ضوء السيارة، ليتبيّن لنا أنه (أجباح نوب)، صناديقُ نحلٍ مكدّسةٌ بطريقةٍ جعلتها تبدو من بعيد كأنها مركبةٌ مقلوبة. تنفّسنا الصعداء وحمدنا الله، ثم عدنا إلى الطريق نتابع سيرنا حتى وصلنا إلى قرب سائلة الخزجة. هناك، توقّفنا وتناولنا العشاء في مطعمٍ شعبيٍّ بسيط. واصلنا طريقنا نحو جبال الأعروق، والليل قد اشتدّ بردًا وسكونًا، حتى بدا كلّ شيءٍ غارقًا في الظلمة والهدوء. عند آخر نقطة تفتيش، أخرج السائق (عرائس سجائر مارلبورو) كراتين صغيرة تحتوي كلّ واحدة على عشرة بواكيت من تحت الكرسي، ووزّعها علينا، وقال: "خذوها وخبّئوها معكم، هنا التفتيش مشدّد." أخذناها سريعًا وأخفيناها تحت ملابسنا، وكلٌّ منا يحاول أن يبدو طبيعيًا. وحين وصلنا إلى النقطة، أوقفنا الجنود وأنزلونا من الحافلة، وبدأوا بتفتيش السيارة بعناية شديدة، مستخدمين أدوات لفتح الأبواب والمقاعد. وجّه أحدهم ضوء كشافه مباشرة إلى وجه خالد، وقال بصوتٍ حادّ: "افتح المعطف، ماذا معك؟" تردّد خالد قليلًا قبل أن يفتح معطفه، فظهرت السيجارة بوضوح. سأله الجندي: "لِمَن هذه؟" فأجاب: "إنها لي" ثم التفت إلى يحيى وفتح جاكته الرياضي، فظهرت السيجارة أيضًا. وأثناء التفتيش، تسلّلتُ بهدوءٍ إلى داخل السيارة، أخرجت السيجارة التي كانت معي، وأخفيتها بسرعة تحت المقعد قبل أن يلاحظني أحد. بعد لحظات، ناداني الجندي نفسه وبدأ بتفتيشي، لكنه لم يجد شيئا. بعد أكثر من نصف ساعة من الانتظار، طلبوا من السائق دفع رسوم الجمارك لأنه كان يحمل كيس ملابس على سقف السيارة. حاول أن يشرح لهم أن هذه الملابس رسالة لشخص في صنعاء، لكنهم رفضوا السماح لنا بالمرور. صعد معنا أحد الجنود وأوصلنا إلى مكتب الجمارك في الراهدة وفقًا لتوجيهات قائد النقطة. هناك أوقفونا لمدة ساعتين ونصف، وقاموا بتفتيش الكيس وفرز الملابس، وكتبوا محضرًا رسميًا. بينما كنا نحن في الحوش متعبين نرتجف من البرد، لم يرحموا حتى صابرين، الطفلة الصغيرة، وهي تلاحق أبيها. وفي النهاية، احتجزوا الملابس معهم وسلموا للسائق ورقة استلام ليُسلمها لصاحب الرسالة، ليتمكن من دفع الرسوم واستلامها. بعد كل هذا التعب والإرهاق واصلنا طريقنا نحو صنعاء، مرورًا بنفس نقاط التفتيش السابقة. وعندما اقتربنا من نقيل سمارة، أخبرنا السائق أنه بدأ يشعر بالنعاس الشديد ويخشى أن يفقد السيطرة على السيارة أثناء المرور بالنقيل. فسألنا: "من منكم يستطيع قيادة السيارة؟" فأجاب صديقي يحيى بأنه قادر على قيادتها. لكني تدخلت وقلت للسائق: إنه هو من يجب أن يقود السيارة، نظرًا لخبرته ومعرفته بالخط. ثم بث لنا جمال أغاني مصرية عبر البلوتوث، فكنّا نصفق ونضحك معًا. حتى خالد الصريمي كان يصفق بحرارة متفاعلًا، بينما كان سائق السيارة يضحك من قلبه، وكأن التعب والإرهاق قد اختفيا لحظتها. وعندما صعدنا نقيل سمارة، بدأ خالد الصريمي يتحفنا بقصصه، المصحوبة بالنكتة والمرح. كنت أضحك من أعماق قلبي، لم أتذكر آخر مرة ضحكت بهذه الطريقة. هكذا استمرينا حتى وصلنا مدينة ذمار، ونزل خالد الصريمي هناك متجهًا إلى مدينة رداع. ودعناه، ثم واصلنا طريقنا حتى وصلنا صنعاء عند الساعة الثامنة صباحًا. وصلتُ إلى البيت، تناولت فطوري على عجل، ثم استلقيت على الفراش. وما شعرتُ بنفسي إلا عند الساعة الواحدة والنصف ظهرا، غارقًا في نومٍ عميق استنزفته رحلة طويلة وشاقة. سبعة وثلاثون ساعة من السفر المتواصل، عبر جبال ووديان ونقاط تفتيش لا تنتهي، بين برد الشمال وحرّ الجنوب، بين الأمل المتقطع والتعب المستمر، وبين النعاس الذي يثقل الجفون والضحك المؤقت الذي يحاول تخفيف وطأة الرحلة. كل هذا العناء واجهناه من أجل إجراء إداري بسيط: تغيير المسمّى الوظيفي في جواز السفر، استعدادًا للسفر إلى خارج الوطن بحثًا عن بصيص أمل، لعله يمنحنا شيئًا من الاستقرار، حتى وإن كان بشكل نسبي. عدتُ إلى صنعاء محمّلًا بتعب الطريق، ودهشة المفارقة؛ كيف يمكن لرحلةٍ كهذه أن تختصر حال وطنٍ بأكمله... وطن يُرهق أبناؤه من أجل حق لا يحتاج، في الأصل، إلى كل هذا العناء.