أينما تذهب تجد أمامك متسولاً، بل جيشاً من المتسولين الذين يستخدمون شتى الأساليب للتأثير عليك بهدف الحصول على ما تجود به من مال. لقد أصبح التسول ظاهرة شائعة.. أما أسبابها وإن تعددت فإنها تلتقى عند حقيقة واحدة.. وهي أن الحياة المعيشية في اليمن لم يعد غالبية المواطنون قادرون على احتمالها، نتيجة لما وصل إليه الوضع الاقتصادي المنهار في البلاد.. مما أفرز الكثير من المشاكل والظواهر السلبية مثل الفقر والبطالة واليتم والانفلات الأمني والفوضى والتي شكلت في مجموعها متلازمة معقدة يعاني منها ذوي الدخل المحدود ومن ليس لهم دخل أصلاً.. في عدن، عاصمة الاقتصاد والتجارة، والعاصمة السياسية المؤقتة حالياً، تتجلى ظاهرة التسول بشكل لا يوصف.. تنتشر الظاهرة على طول المدينة وعرضها ولا يكاد يخلو منها شارع أو زقاق.. يبدو الأمر مخيفاً ومثيراً للقلق.. فلم يكن الوضع على ما هو عليه اليوم في وقتٍ مضى.. بالرغم من أن التسول ليس طارئاً على المدينة، حيث يعود ازدهاره إلى عقب قيام الوحدة اليمنية عام 1990م.. عندما تغيرت الطريقة المعيشية للمواطنين في الجنوب وتغيرت طريقة حياتهم أيضاً.. وعقب حرب صيف 94م، ازدادت الظاهرة تعقيداً، وتزايد عدد المتسولين بشكل كبير وغير مسبوق، بعد أن تعامل حكام الشمال المنتصرون مع أبناء الجنوب باعتبارهم غنيمة حرب، كما أن الاقتصاد الوطني تعرض لعدد من الانتكاسات المتتالية التي قضت على الطبقة الوسطى، وحولت أكثر من 90% من المواطنين إلى فقراء، في ظل تزايد معدلات البطالة وأعداد العاطلين وانعدام فرص العمل، تزامناً مع غلاء الأسعار، وانخفاض الدخل بشكل كبير لدى الشرائح العاملة. سامح عبدالوهاب ليلى: لو في شغل ما مددت يدي لمخلوق في مستهل جولة سريعة، في بعض مناطق عدن، التقينا بامرأة تفترش الأرض أمام أحد مطاعم مدينة (كريتر)، تدعى «ليلى علي» قالت إنها أم لأربعة أطفال، يرافقها اثنين منهم في رحلة العذاب الطويلة بحثاً عن لقمة العيش.. وأشارت ليلى إلى أن زوجها عاطل عن العمل، ولم يجد أمامه سوى التنقل من شارع إلى شارع لتجميع القوارير البلاستيكية من براميل وأكوام الزبالة، وهي مهنة يحترفها الكثير من العاطلين، لكنها لا تغني شيئاً لتلبية احتياجات أسرهم. وبكلمات مؤثرة عبرت عن ليلى الوضع البائس الذي تعيشه في منزلها هي وزوجها وأطفالها الأربعة، وقالت- بعد أن حلفت فوق رأس أطفالها-: «لو نظرت إلى بيتنا لرحمتنا، ولو كنت أقدر أجد عمل ما مددت يدي لأي مخلوق..». صومالية في قلب المعاناة لم تقتصر ظاهرة التسول في عدن على اليمنيين فقط، إذ أن عدد من أبناء الجنسيات الأخرى يمارسون هذه المهنة أيضاً.. تقول «منى قائد» لاجئة صومالية إنها تتردد بين منطقة خرز ومدينة البساتين في عدن، من حين إلى آخر، للبحث عن صدقة «تدرأ الجوع عن أولادها الستة» وفقاً لتعبيرها لأنها العائل الوحيد عنهم كونها امرأة مطلقة، وأشارت إلى أن كلفة المواصلات بين مخيم خرز ومدينة عدن تصل إلى 1800 ريال، وهي مرتفعة جداً قياساً على ما تحصل عليه من مبلغ متواضع، واختتمت حديثها بالقول: «معك عشرة ريال؟!».. أم: من يساعدني في رعاية أطفالي غير بعيد عن «ليلى» كان أربعة أطفال يفترشون الأرض إلى جانب أمهم، يترقبون كل من يخرج من المطعم لعل وعسى يجدون منه خيراً.. اقتربت من المرأة وسألتها عن السبب الذي دفعها لممارسة التسول فقالت «ظروفنا المعيشية هي التي دفعتنا إلى الجلوس هنا ومد أيدينا للناس.. وعن زوجها قالت إنه يعمل في تصفية وغسل البوابير (السيارات) لكنه لا يستطيع إعالة الأسرة وتوفير احتياجات البيت نظراً لدخله المحدود.. وطالبت الدولة أو أي مقتدر أن يساعدها لرعاية أطفالها بما يستطيع توفيره من مال أو راشان أو أية أشياء أخرى.. عائلات سورية في نادي التسول في قلب مدينة كريتر، لاحظت رجلاً في الأربعينات من العمر يقتاد طفلته التي لا يتجاوز عمرها 11 عاماً.. نظرات عينيها مليئة بالرجاء والأمل.. استوقفته بعد أن عرفت أنه لاجئاً سورياً يمارس التسول.. أخبرني «جمال سالم» أنه لاجئ سوري من مدينة درعا، جاء مع أسرته المكونة من زوجته وبناته الأربع، هربوا من جحيم الحرب في سوريا وحطوا رحالهم في عدن.. يخرج جمال كل صباح إلى «سوق الطويل»، يبحث عن ما ينقذ به أسرته من الجوع، يقول بأنه يحصل غالباً على مبلغ ثلاثة آلاف ريال في اليوم يوزعها بين احتياجات المشرب والمأكل وإيجار السكن.. مشيراً إلى أنه كان يعمل في سوريا مزارعاً، ومن الصعب عليه أن يجد عملاً مناسباً في عدن، وأن التسول هو خياره الوحيد حالياً لأنه مغلوب على أمره.. ونوه جمال إلى أن عدن تحتضن أكثر من 30 عائلة سورية وجميع هذه الأسر تعاني من حياة معيشية صعبة وفقر مدقع مما يدفع غالبيتها إلى التسول، خصوصاً وأن هذه العائلات غير مدونة في سجلات اللاجئين بطريقة رسمية، ولم يعمل فرع الأممالمتحدة في اليمن على مساعدتها. حادث مروري يجبر درويش على التسول أصيب «محمد درويش» في حادث مروري، وأجريت له عمليتان لم تكللا بالنجاح، ولم يعد قادراً على تحمل العمل الشاق، وليس له أولاد يعولونه، لذا وجد نفسه مضطراً للبحث عن مساعدة الآخرين، مشيراً إلى أن منزله يقع على رأس جبل المعلا، وأنه عند حاجته للماء يضطر لاستئجار حماراً لإيصاله إلى منزله.. وهذا ما دفعه إلى الشارع لطلب العون من الناس.. أرملة أحداث يناير لا معاش لها زهرة أحمد علوان.. امرأة خمسينية، تبدو ملامح التعب والتقدم في السن من خلف خمارها الأسود بسواد معاناتها، أكدت بأنها اضطرت للتسول بسبب معاناتها المعيشية، وقالت «لدي خمس بنات في البيت وجميعهن لا يعملن، ولا يوجد معي أولاد ذكور يوفرون لنا لقمة العيش.. وزوجي رحمهُ الله توفي منذ أحداث يناير 1986م، ولم يترك لنا راتباً.. والتسول أشرف لنا من السرقة والنهب، وأطالب الدولة أن توفر لنا معاشاً يسد رمقنا ويحمينا من الجوع، ولن نخرج إلى الشارع إذا حصلنا على هذا المعاش. تسول أسبوعي يقول «جمال محمد حسين» صاحب محل تجاري في كريتر إنه يستقبل ما بين مائتين إلى ثلاثمائة متسول ومتسولة كل أسبوع، وأنه يقوم بإنفاق نحو ثلاثة آلاف ريال أسبوعياً بمعدل عشرة ريالات لكل متسول.. مشيراً إلى أن غالبية المتسولين يأتون يوم الخميس.. حيث ينتشرون بكثافة ويقومون بزيارة أصحاب المحلات التجارية للحصول على ما يجود به الخيرون منهم، ونوه إلى أن المتسولسن يتوزعون على كل الفئات العمرية والنوعية ومن جنسيات مختلفة، لأن الظروف المعيشية التي تعيشها البلاد دفعت الكثير من الناس إلى ممارسة التسول.. يبقى التسول إحدى الظواهر السلبية التي غيرت وجه الحياة في الكثير من المدن اليمنية وخصوصاً عدن في ظل غياب الدولة وضعف مؤسساتها، المهتمة بالرعاية، مما يجعل هذه الظاهرة تتوسع بسرعة قياسية بطريقة توحي بأن المواطنين يتجهون نحو تشكيل جيش عظيم من المتسولين..