عندما نقول الحقيقة أو ما نحسبه الحقيقة تجاه الجماعات المسلحة التي تستميت في إحلال نفسها بالقوة بدلاً عن مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية والقضائية، لا يأتي بدافع الكيد والتحريض، أو الحقد والافتراء، وإنما بدافع الخوف والحرص على الوطن من الانزلاق في أتون الصراعات الطائفية والقبلية، والخشية من إماتة الدولة والنظام، وإحلال العنف والسلاح وحكم العادات والأعراف بدلاً عن حكم القانون والدستور. ما نراه اليوم أن الناس مفزوعون من سطوة هذه الجماعات المسلحة وقسوتها وتطبيق أحكامها أيا كانت بحد السيف وعقب البندقية، وليس لأحد الحق في الاعتراض أو الاستئناف، ومن الذي سيحميه إذا اعترض، وأية محكمة استئناف ستقضي بإنصافه، والدولة ومؤسساتها العسكرية والقضائية والمدنية تنازع الموت. إن بروز أبشع الجلادين لجماعة ما خارج حدود النظام والقانون حافز قوي ومبرر منطقي لنشأة وبروز جلادين أشد بشاعة، لهم الحق الشرعي والقانوني في مواجهة الجلادين السابقين. وهو الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام تناسل الجماعات والمليشيات والجلادين، وعلى نحو سيكون فيه الوضع أكثر عبثاً وغباوةً وقسوة وطغياناً. وليس من حق الجماعة السابقة ومليشياتها أن تعترض أو تمنع ولادة مليشيات جديدة لجماعات أخرى. وبناء على هذه الرؤية نصر على انتقاد أية جماعة مسلحة تورث نفسها مهام الدولة وصلاحياتها حتى لا تصبح ذريعة ومسوغاً لولادة جماعات مسلحة غيرها، وبالتالي نصبح كالوحوش في غابة يحكم فيها القوي ويبطش بالضعفاء ويجور على المساكين. لقد أثبت الشعب اليمني على مدى تاريخه القديم والحديث أنه شعب حر وذو إباء وعزة، وإن صمت أو هادن أو ساير الأحداث والظروف في لحظة أو فترة زمنية ما، فليس ذلك دليل خنوعه واستكانته، وإنما إشارة إلى جور الزمن عليه وتكالب الأعداء وعدم مواتية الفرصة للثأر والانتقام. ولكن يظل صمته وهدوءه كالجمر تحت الرماد، فما إن تحين له الفرصة حتى يخرج كالمارد وينقض على من مارس ضده سياسة العنف والقهر والاستعباد. لقد صمت الشعب اليمني وتحمل جور الإمامة عقوداً من الزمن في القرن العشرين، وحين أتيحت له الفرصة انتقم لنفسه في ثورة 26 سبتمبر. ومثل ذلك تحملت القبائل في حاشد همجية واستعباد أولاد الأحمر عقوداً من الزمن بعد قيام الثورة، وما إن جاءتهم الفرصة حتى انتقموا منهم شر انتقام عن طريق التحالف مع حركة الحوثي أو التواطؤ معها، باعتبارها المنقذ لهم من جور أولاد الشيخ وعبثهم. ونستطيع قول ذلك على حركة الحوثي اليوم فهي إذا استمرت في فرض إرادتها بالقوة وقمع المعارضين لها، والسيطرة على منشئات الدولة، وتفجير بيوت الخصوم، فإن الذين فروا إليها باعتبارها المنقذ سيبحثون عن منقذ آخر يستعينون به لمواجهتها والتخلص منها مبكراً. إن من مصلحة جميع الأطراف السياسية والمجتمعية الحرص على ما تبقى من مؤسسات الدولة والحفاظ عليها، وخاصة المؤسسة العسكرية، والعمل على توحيدها وتمكينها من ممارسة دورها الإيجابي في الحفاظ على الوطن وآمنه القومي. ولعل في تأسيس (الهيئة الوطنية للحفاظ على القوات المسلحة والأمنية) بادرة طيبة نأمل أن تكون البداية الصحيحة لإعادة الأمور إلى نصابها. فالقوات المسلحة هي القوة الوطنية الوحيدة التي يجب أن يجمع حولها كل أبناء الشعب، ولنا العظة والعبرة في دولة مصر، فلولا توحد المؤسسة العسكرية وتماسكها لكانت مصر اليوم ربما أسوأ من ليبيا وسوريا.