عمارة شاهقة، وقديمة جداً، إلى حدِّ أن أرى أبي يقف على بوابتها بانتظار نزولي، ليقبض على لحيته ويمضي دون أن يقول كلمة.. حميمية طارئة تربطني بهذا المكان الذي يشبه معصرة السمسم.. وعتبات أبوابه مكتظة بالأحذية كأنه مسجد. محسن الصنعائي، الذي يعمل في تكسير الأحجار، يُجري معي حواراً صحفياً في غرفة ضيقة.. تنحنحتُ لتجربة صوتي فنَهَرني، لأنني سأوقظ الرجل النائم الذي لا يتجاوز عرضه شجرة الموز، وهو ملفوف بكفن أسود يُشبه عَلَم القاعدة، ويشبه أيضاً ثوب الدَّمَسْ الذي تركته جدَّته في شهر عسلها معلَّقاً على حبل غسيل أوروبي. محسن الصنعائي، يريدني أن أشنَّ هجوماً على القناة التي أجرت معي حواراً قبل أيام.. لا أتذكر اسم القناة، لكنني رسمت له شعار القناة المتطرِّفة التي تظهر فيها المذيعات لقراءة النشرة وهنَّ بملابسهن الداخلية. استيقظ الرجلُ النحيلُ كشجرة موز.. قطعتُ الحوار مع محسن الصنعائي الذي كان يتهيّأ لتثبيت كاميرا التصوير، ولم يتبقَّ من الحوار غير السؤال الأخير، الذي أجبتُ عليه وأنا أنزلُ مسرعاً من السُّلَّم المليء بالأحذية. العُملة الزجاجية الملوَّنة تُزيِّن الشوارع، وهي مثبَّتة على الأحجار المرصوفة مثل "عين القط".. الفقراء يشعرون حينها بمقولة "العين بصيرة" التي تملأ مطابخ مصر. في الدور السابع، طفلٌ متوحِّدٌ حتى من ملابسه، يملأ القنينة بالفحوصات ويسكبها على المارَّة الذين يتحركون ببطءٍ آليٍّ، كي لا يدوسوا على تلك العملة الزجاجية. ها أنا أعجن قبل أن أصل إلى إيجاد رابطٍ بين محسن الصنعائي وبين الصحافة!! محسن يبدو مثل "أحدب نوتردام".. فمه المفتوح باستمرار وبحَّة صوته ولحيته الرثَّة تجعله كذلك.. وددتُ لو أسأله: هل كتَبَك فيكتور هوغو؟ لكنَّ عمله كقاطعِ أحجار كان يحولُ بينه وبين فرنسا.