وأنا أهم بالانصراف بعد أن تأملت مطولاً في ملامح التمثال المهيب للملك العظيم «ذمار بن علي»، تهيأ لي أني رأيت جفنه يرف، فأعدت النظر كرتين، وكأنما شعرت أن داخل ذلك القالب النحاسي، روح حبيسة معذبة، أو أن الملك النحاسي نفسه دبت فيه الحياة! لقد بدا حزينا مكتئباً، يزم شفتيه بأسف ويتمتم بامتعاض واضح، وأحسست أن من واجبي كسر حدة التوتر، فأنشدت بيت شعر في الفخر كان أول ما خطر على ذاكرتي: تحضّرنا، وعاد الفكر محدود ... كتبنا بالحجر قبل القراطيس..!! لكن بدلا من أن أشعر ويشعر بالزهو بذكريات مجدٍ عريق، وحضارة تليدة، تعكر مزاجه أكثر، وبدا عليه السخط والقرف، كمن يريد أن يبصق على كل شيء، ويصب لعناته في كل اتجاه، فصرخ وهو يكاد يتميز من الغيض: -أين التحضر أيها البرابرة، أين الفكر أيها المغفلون أين الكتابة أيها الأميون، ارحميني أيتها الكائنات المجترة، شراييني تنزف مع كل أنبوب نفط يتم تفجيره، أنفاسي تتقطع مع خطوط الطاقة التي تقومون بتقطيعها، وأشعر بالوحدة وأبكي دما على كل سائح جاء لزيارتي فتم اختطافه.. -نحن يا جدي.. - مرتزقة، أنتم مجرد مرتزقة، وقطاع طرق، لقد قاتلت الأعداء، وأنتم تتقاتلون بالوكالة، قاتلت من أجل المجد، وأنتم تتقاتلون من أجل العدم، لقد رأيت الأعداء من كل نوع لكنني خلال آلاف السنين، لم أجد عدوا أخطر عليكم وعلى تاريخكم ومستقبلكم منكم.. -جدي..! -هذا اللقب بالذات لا يشرفني، أنتم لا تنتمون إليّ، لقد مت واقفا، وأنتم تعيشون منبطحين طوال أعماركم التافهة، أشعر بالعار والخجل والضآلة معكم، أنتم عالة على العالم، «ولو كنت أعلم أنكم من نسلي لاختصيت».! حاولت أن أبدو مثقفا عنيدا، واستدركت: -هذه الجملة الأخيرة مقتبسة، ثم إن تمثالك برمته صممه مهندس يوناني.! -يالنباهتك! ليست المشكلة هنا، لقد فتحنا نوافذنا على كل الجهات وأنتجنا حضارة مميزة، لكن أنتم..! أنتم احتفظتم بأسوأ ما في الماضي، واقتبستم أسوأ ما في الحضارة الحديثة، وفتحتم قلاعكم لكل الغزاة والقوادين والسماسرة، وأكلتم بأثدائكم، لم تنتجوا سوى الإرهاب، ولم تستوردوا سوى القشور، يمكنكم أن تكونوا شيئا مذكورا.. لكنكم ترفضون بكل مناعة وإصرار إلا أن تكونوا حثالة الزمن الميت..!