بعد أكثر من ثلاثة عقود اكتشف دعاة الناصرية أن إبراهيم الحمدي كان ناصرياً.. وأنه قتل عدواناً وظلماً.. وبعد أكثر من ثلاثين عاماً بدأوا يعبرون عن مشاعرهم بأنه الغائب الحاضر وأن حضوره يرعب القتلة. ودائماً.. اللهم لا اعتراض على الاكتشاف المتأخر فلقد ظل أحد أبطال مسلسلات الكارتون يبحث عن أمه ثلاثين عاماً، لكن الاعتراض هو على أن هذا الإدعاء الناصري يبدو أجوف عندما يتم إسقاطه على أوضاع هذا الحزب أو خاطفي قراره بدليل أن مواقف هؤلاء من قضايا الشعب والوطن بدت عرجاء بل قل كسيحة، وكأنه الوجه الثاني لعملة الحزب الاشتراكي من طراز ليس جديداً ولا قديماً وإنما شيئاً من اللاشيء. لست بالناصري ولكنني أحد الذين أحبوا إبراهيم الحمدي منذ أن كنت طالب إعدادية في مدرسة الثورة بالحديدة.. وعندما قتلوه وأخاه عبدالله بكيت وعصبت معصمي ورأسي بقطعة سوداء شأن الكثيرين ممن بكوا وهم يسمعون المذيع عبدالله محمد شمسان وهو يذيع خبر مقتل الحمدي ويضيف عليه "إن من قتل إبراهيم كأنما قتل اليمنيين جميعاً". وتأكيداً لهذه الصبابة والمحبة للحمدي مازلت أتذكر كيف أن جسمي كان يقشعر فرحاً وأنا أشاهده وأسمعه يتحدث في احتفال داخل مقر شركة القطن اليمنية في شارع صنعاء أو وهو يطل من داخل سيارة مكشوفة ويحييّ المواطنين وإلى جانبه المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. كما ما زلت أحفظ بعض العبارات من خطاباته التي كانت تلامس شغاف القلب على نحو: "هناك أناس يقلقون ولا أدري ما الذي يقلقهم.. هل بناء الدولة المركزية القوية يقلقهم.. لا أدري.. هل المشاريع التي شيدناها هي التي تقلقهم.. لا أدري.. إنهم لا يقلقون إلا على مصالحهم الشخصية". هذه شهادة من أيام الطفولة لا أبتغي بها قرارا جمهوريا من رئيس مجلس قيادة صار من سكان القبور أو توصية من عبدالله نعمان أو سلفه سلطان العتواني، ولكنه تذكير هؤلاء بأن الناصرية بمفهوم الزعيم جمال عبدالناصر أو مفهوم إبراهيم الحمدي إذا تأكدت ناصريته هي الالتحام مع الجماهير وليست أبداً الانكفاء داخل دوائر المصالح السياسية الضيقة التي لم تصل بركاتها حتى إلى قاعدة الناصريين بقدر ما أدت إلى الانحسار والتآكل الحزبي الشامل. نعم كان إبراهيم الحمدي قائداً عظيماً بالنسبة لما حققه خلال أعوام بسيطة ولكن.. ما هي إنجازات من يرون أنفسهم ورثته في ميدان الحكم والسياسة، وما هو رصيدهم في العمل الوطني التنموي ؟ وهذا السؤال ليس سوى امتداد لتساؤلات مشابهة يرددها زملاء ناصريون أحبهم يسوؤهم أن يبقى حزبهم مجرد تكملة عدد في هامش عدم الهش أو النّش. وإذن.. لقد كان إبراهيم الحمدي عظيماً بكل معاني الكلمة، لكن المشكلة هي في أن عظمته تثير الرثاء على آخرين ليس لهم من إنجاز سوى البكاء المتأخر ثلاثة عقود على قبر الحمدي وهو أمر أجزم بالاعتقاد أنه يزعجه في قبره. رحم الله الشهيد إبراهيم الحمدي ورحمنا من بعده.