واجهت الجمهورية اليمنية أزنة سياسية مركبة تمثلت بموروث التشطير وتعقيدات الفترة الانتقالية التي تلت التوقيع على اتفاقية الوحدة، وقد كان لضعف البنى المؤسساتية لدولة الوحدة، وبتأثير سلبي من المكايدات بين شريكي التوحيد حينها، كان لذلك دورة المحوري في الوصول بالأزمة إلى نقطة الافتراق بين أطرافها فارضة بذلك وضعاً من الصراع المحتم حسمه بالقوة بين خياري الوحدة والانفصال، وهو ما كان في حرب صيف العام 1994م. وبالرغم من انتصار خيار الوحدة في تلك الحرب، إلا أن تداخل عوامل ذاتية وموضوعية حالت دون تطبيق قرار العفو العام بصورة مجسدة لروح الاتفاقيات الوحدوية ، بسبب الصراع الجنوبي بين طرفي أحداث يناير86م الأمر الذي فرض تداعيات تراكمت على الواقع العملي منتجة ما بات يعرف بالقضية الجنوبية، والتي آلت منذ العام 2007م إلى حركة منظمة في بعض المحافظات الجنوبية، تعرف ب"الحراك الجنوبي". من جهة أخرى أفرزت المصالحة الوطنية التي تلت انتصار الجمهورية في شمال الوطن عام 1968 وضعاً مكن القوى التقليدية من حرمان محافظات شمال الشمال من التنمية والتحديث السياسي وأدى استمرار هذا الوضع في دولة الوحدة إلى بروز أزمة صعدة وتفجرها في العام 2004م، حرباً بين القوات الحكومية وميليشيات حسين بدر الدين الحوثي، التي استغلت غياب الدولة هناك لتشكيل تنظيم مسلح بعقيدة مذهبية. أضعفت حرب العام 1994م، اقتصاد اليمن وأعاقت مسيرة التنمية ، وكان لآفة التطرف والإرهاب دورها الحاسم في تأزيم الجانب الاقتصادي، من خلال الاعتداءات المتكررة على المنشآت الحيوية كالنفط والكهرباء، من خلال وقف المشاريع التنموية والخدمية، وطرد الاستثمار الخارجي وضرب السياحة بفعل عدم الاستقرار الناجم عن تهديدات الإرهاب. وسط تعقيدات هذه الأزمة ظلت عملية التحول نحو الديمقراطية إيجابية متحركة على الواقع كميزة مكتسبة للجمهورية اليمنية بالوحدة الكاملة بين الشطرين ، غير أن هذه العملية لم تتقدم كثيراً باتجاه التحديث السياسي الشامل بحكم هيمنة القوى التقليدية على الحياة الحزبية والمجتمعية. إضافة لما سبق فإن الديمقراطية العامة ظلت تراوح في مكانها بسبب فشل جميع الأحزاب اليمنية في دمقرطة نفسها. ولعل الانتخابات الرئاسية في العام 2006م، منعطفاً تاريخياً في مسار التحول نحو الديمقراطية، من حيث كونها تجسيداً للتنافس الحقيقي على رئاسة الجمهورية بين المؤتمر الشعبي العام والمعارضة المنضوية في تكتل أحزاب اللقاء المشترك، والتي اتفقت مع المؤتمر بعد هذه الانتخابات وتحديداً في نهاية نوفمبر 2006م، على الحوار لتطوير النظامين السياسي والانتخابي. لم تسلم المعارضة بخسارتها في تلك الانتخابات، فاتجهت نحو العمل على توسيع دائرتها السياسية خارج أطرها الحزبية من خلال لافتات شكلية للحوار الوطني، انتهت إلى إعلان ما سمي باللجنة التحضيرية للحوار الوطني وطرحت رؤيتها لما اسمته مشروع الانقاذ، الذي تجمد عند الإعلان، ثم أزيح من خطاب المعارضة نهائياً أثناء حركة الاحتجاج الشعبي مطلع العام 2011م. فرض تعنت أحزاب المعارضة في اللقاء المشترك على المؤتمر الشعبي العام قبول رغبتها في تأجيل الانتخابات النيابية عامين كاملين من أجل إتاحة الفرصة للحوار حول تعديلات دستورية تفضي إلى تطوير النظام السياسي والنظام الانتخابي على مبدأ القائمة النسبية وفقاً لما نص عليه اتفاق هذه الأحزاب المعروف باتفاق فبراير 2009م، وهو الاتفاق الذي جمد لحظة توقيعه ،وفشلت محاولة الطرفين لإحيائه باتفاق 17 يوليو 2010م، مما أضطر المؤتمر الشعبي العام إلى قرار الذهاب منفرداً إلى الانتخابات المؤجلة، وهو القرار الذي وصل بالأزمة السياسية إلى طريق مسدود لولا أن تأثير حركة الاحتجاج الشعبي في كل من تونس ومصر دفعت بالجماهير اليمنية إلى الشوارع في حركة احتجاجية طالبت بتغيير النظام كفرصة جديدة لتجاوز الأزمة المتفاقمة بعجز القوى السياسية وفشلها في حسم صراعاتها بالحوار. استجاب المؤتمر الشعبي العام للحراك الشعبي السلمي ومطالبة بإيجابية عبرت عنها مبادرة الرئيس علي عبدالله صالح في خطابات ألقاها في ميدان السبعين والملعب الرياضي بمدينة الثورة الرياضية، غير أن أحزاب المعارضة توهمت قدرتها على استنساخ النموذجين التونسي والمصري، فرفضت المبادرات واستقوت بحلفائها داخل أجهزة الدولة والقوى القبلية. عجزت المعارضة في الاستيلاء على السلطة بقوتها العسكرية رغم قدراتها في التعاطي مع المبادرة الخليجية لكسب الوقت الذي كانت تظنه متاحاً لها للانقلاب على السلطة والاستيلاء عليها بالقوة المسلحة، خصوصاً بعد فشل جريمة الاغتيال التي استهدفت الرئيس صالح وأركان حكمة يوم الجمعة 3 يونيو 2011م، والتعامل الحكيم الذي حدده خطاب الرئيس صالح وتوجيهاته بعد العمل الإرهابي، ليجنب اليمن مخاطر الانزلاق إلى حرب أهلية، ويحافظ على استراتيجية الحزب المرتكزة على الاحتكام لمبادئ الديمقراطية في تحقيق تسوية سلمية للأزمة وانتقال السلطة بآليات ديمقراطية ومن خلال صناديق الاقتراع. اعترفت المعارضة بفشلها بعد محاولات التصعيد التي نجم عنها المزيد من الدماء المهدورة والتدمير الواسع لمقومات الحياة مادياً ومعنوياً ،وكان هذا الاعتراف غير المعلن ظاهراً بقبول التوقيع المتزامن للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة، والذي تحقق في 23 نوفمبر 2011م لتدخل به الأزمة السياسية مرحلة انتقالية واضحة المعالم والمهام والغايات. ترتب على التسوية السلمية وضع من الوفاق الوطني بين الحزب الحاكم وحلفائه وبين المعارضة وشركائها، تجسد عملياً بحكومة الوفاق الوطني، وباللجنة الأمنية العسكرية العليا، ورغم التضحيات وحجم التنازلات التي قدمها المؤتمر في سبيل المصلحة الوطنية العليا المتحققة بهذه التسوية،إلا أن شؤكاءه في التسوية السياسية لم يتحرجوا من الخروج على التزاماتهم إلى نزعتهم المتطرفة في رغباتهم ب "اجتثاث المؤتمر" والاستيلاء على السلطة عبر الفوضى. أخيراً يمكن القول أنه يوجد فرق كبير بين الاحتجاج على البطالة والاحتجاج على تغييب الحياة الدستورية، فهل يعي المطالبون بالتغيير ذلك ؟!