وكالة: الطائرات اليمنية التي دمرتها إسرائيل بمطار صنعاء لم يكن مؤمنا عليها    البرلماني بشر: اتفاق مسقط لم ينتصر لغزة ولم يجنب اليمن الدمار    أرقام تاريخية بلا ألقاب.. هل يكتب الكلاسيكو نهاية مختلفة لموسم مبابي؟    أرقام تاريخية بلا ألقاب.. هل يكتب الكلاسيكو نهاية مختلفة لموسم مبابي؟    السعودية تقر عقوبات مالية ضد من يطلب إصدار تأشيرة لشخص يحج دون تصريح    تعيين نواب لخمسة وزراء في حكومة ابن بريك    رئاسة المجلس الانتقالي تقف أمام مستجدات الأوضاع الإنسانية والسياسية على الساحتين المحلية والإقليمية    ضمن تصاعد العنف الأسري في مناطق سيطرة الحوثي.. شاب في ريمة يقتل والده وزوجته    السامعي يتفقد اعمال إعادة تأهيل مطار صنعاء الدولي    صنعاء.. عيون انطفأت بعد طول الانتظار وقلوب انكسرت خلف القضبان    وسط فوضى أمنية.. مقتل وإصابة 140 شخصا في إب خلال 4 أشهر    في واقعة غير مسبوقة .. وحدة أمنية تحتجز حيوانات تستخدم في حراثة الأرض    انفجارات عنيفة تهز مطار جامو في كشمير وسط توتر باكستاني هندي    وزير الاقتصاد ورئيس مؤسسة الإسمنت يشاركان في مراسم تشييع الشهيد الذيفاني    سيول الامطار تجرف شخصين وتلحق اضرار في إب    الرئيس : الرد على العدوان الإسرائيلي سيكون مزلزلًا    *- شبوة برس – متابعات خاصة    القضاء ينتصر للأكاديمي الكاف ضد قمع وفساد جامعة عدن    السيد القائد: فضيحة سقوط مقاتلات F-18 كشفت تأثير عملياتنا    تكريم طواقم السفن الراسية بميناء الحديدة    صنعاء .. شركة النفط تعلن انتهاء أزمة المشتقات النفطية    صنعاء .. الافراج عن موظف في منظمة دولية اغاثية    مطار صنعاء "خارج الخدمة".. خسائر تناهز 500 مليون دولار    اليدومي يعزي رئيس حزب السلم والتنمية في وفاة والدته    المرتزقة يستهدفون مزرعة في الجراحي    السعودية: "صندوق الاستثمارات العامة" يطلق سلسلة بطولات عالمية جديدة ل"جولف السيدات"    لوموند الفرنسية: الهجمات اليمنية على إسرائيل ستستمر    باريس سان جيرمان يبلغ نهائي دوري أبطال أوروبا    . الاتحاد يقلب الطاولة على النصر ويواصل الزحف نحو اللقب السعودي    بعد "إسقاط رافال".. هذه أبرز منظومات الدفاع الجوي الباكستاني    محطة بترو مسيلة.. معدات الغاز بمخازنها    شرطة آداب شبوة تحرر مختطفين أثيوبيين وتضبط أموال كبيرة (صور)    شركة الغاز توضح حول احتياجات مختلف القطاعات من مادة الغاز    كهرباء تجارية تدخل الخدمة في عدن والوزارة تصفها بأنها غير قانونية    الرئيس المشاط يعزّي في وفاة الحاج علي الأهدل    الأتباع يشبهون بن حبريش بالامام البخاري (توثيق)    فاينانشال تايمز: الاتحاد الأوروبي يعتزم فرض رسوم جمركية على بوينغ    خبير دولي يحذر من كارثة تهدد بإخراج سقطرى من قائمة التراث العالمي    وزير الشباب والقائم بأعمال محافظة تعز يتفقدان أنشطة الدورات الصيفية    وزارة الأوقاف تعلن بدء تسليم المبالغ المستردة للحجاج عن موسم 1445ه    اليوم انطلاق منافسات الدوري العام لأندية الدرجة الثانية لكرة السلة    دوري أبطال أوروبا: إنتر يطيح ببرشلونة ويطير إلى النهائي    النمسا.. اكتشاف مومياء محنطة بطريقة فريدة    دواء للسكري يظهر نتائج واعدة في علاج سرطان البروستات    وزير التعليم العالي يدشّن التطبيق المهني للدورات التدريبية لمشروع التمكين المهني في ساحل حضرموت    ماسك يعد المكفوفين باستعادة بصرهم خلال عام واحد!    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    لوحة بيتا اليمن للفنان الأمريكي براين كارلسون… محاولة زرع وخزة ضمير في صدر العالم    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    مرض الفشل الكلوي (3)    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في الذكرى الرابعة لبدء ربيع العرب: ماذا حدث لليبرالية العربية؟
نشر في يمن فويس يوم 20 - 12 - 2014

في يوم الاحتجاج، لم يقل “أ.ب” كلمة واحدة لأصدقائه أو عائلته. استقل طالب القانون من دمشق، والبالغ من العمر 27 عامًا، الحافلة متجهًا وحده إلى المدينة القديمة حيث أشارت صفحة الفيسبوك إلى أن التجمع سيكون في تلك المنطقة. وكان مندهشًا لرؤية بعض الوجوه التي يعرفها في الطريق إلى هناك. وقال لنفسه، بينما كان يسترق النظر إلى المتظاهرين الآخرين معه: “بعد هذا اليوم، سوف نصبح أصدقاء جيدين جدًا لبعضنا البعض”.
وامتلأت شوارع حي الحميدية المتعرجة والضيقة بالبائعين في ذلك اليوم المؤرخ ب 15 مارس 2011. وعن هؤلاء، يقول “أ.ب”، والذي يستخدم الأحرف الأولى من اسمه فقط خوفًا على سلامة عائلته التي لا تزال في سوريا: “كنا نعرف أنهم جميعًا يعملون كشرطة سرية، وأنهم سوف يقومون بالتقاط صور لنا، والإبلاغ عنا”. ورغم كل هذا، تجمع المتظاهرون، الذين بلغ عددهم ربما 40 أو 50 شخصًا، في ثاني مظاهرة من مظاهرات الربيع العربي في العاصمة السورية. ولمدة 30 دقيقة، ساروا وهم يهتفون “سلمية”، ويحلمون بكلمة بعيدة جدًا حتى الآن عن الحياة في سوريا، وهي: حرية.
ومن ثم، جاءت الشرطة نحوهم في موجات. وقال أ.ب متذكرًا: “لم يكونوا مرتدين الزي الرسمي، ولكن كان لديهم أسلحة: سكاكين وعصي”. وأضاف: “حتى الباعة تركوا بضائعهم وهاجمونا”.
واستطاع أ.ب التعرف على ما يقرب من نصف المتظاهرين في ذلك اليوم. ومن تعرف إليهم جميعًا تقريبًا قد قتلوا أو اعتقلوا أو أصبحوا من المفقودين، خلال ما يعد الآن حربًا أهلية مستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات بين الرئيس بشار الأسد وأولئك الذين يعارضون نظامه. وعدد قليل منهم طلب اللجوء في أوروبا، مثل أ.ب نفسه، والذي طرد من الجامعة بعد تظاهرة، ويعمل اليوم مترجمًا، في مكان بعيد عن البلد الممزق الذي سعى ذات مرة لتغييره.
ويقول أ.ب: “أحيانًا ألوم نفسي على الحرب التي تلت ذلك”. ويضيف: “أتذكر ذلك اليوم، ومن ثم أرى هذا الكم الهائل من الدماء، فأشعر بالندم”.
وبعد أربع سنوات من انتشار احتجاجات الربيع العربي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يبدو أمل هؤلاء المتظاهرين الأوائل أكثر بعدًا من أي وقت مضى. إنه ليس سرًا أنه، وباستثناء تونس، لم يظهر هناك إلا القليل من الديمقراطية للملايين من الناس الذين احتجوا، ومئات الآلاف الذين لقوا حتفهم، في أنحاء المنطقة منذ عام 2011.
وفي سوريا، ما لا يقل عن 200 ألف شخص قتلوا، وغادر 10 ملايين أخرين منازلهم هربًا في ظروف مروعة. والمتمردون المعتدلون هناك، والذين يقودهم جزئيًا ضابط انشق عن النظام، قد تعرضوا لهزائم على يد الدولة الإسلامية (داعش)، التي تسيطر الآن على مساحات شاسعة من الأراضي بحجم الأردن. والاقتصاد المصري في حالة خراب؛ واليمن محكوم من قبل المسلحين؛ وأصبحت ليبيا ساحة معركة دائمة؛ والبحرين غارقة في اضطرابات على مستوى منخفض.
وقد قيل الكثير عن المستبدين وأمراء الحرب الذين تمسكوا بالسلطة على الأغلب، وتهربوا من العقاب، أو حلّ محلّهم زملاؤهم الأقوياء. وأيضًا، باتت قصة الارتفاع والسقوط السريع لجماعة الإخوان المسلمين الذين وعدوا بأن “الإسلام هو الحل”، ولكن سرعان ما ثبت أنهم غير قادرين على الحكم بطريقة شاملة، معروفة.
ولكن، ما لم يكتب عنه سوى القليل هو تلك الأصوات الأولى للاحتجاج، والمتمثلة بالعشرات من الناشطين الذين ألهمت أفكارهم وجرأة حساباتهم على تويتر الملايين، وأين هم الآن. وعلى عكس منافسيهم، لم تظهر أي جماعة مظلة ليبرالية أو متحدث ليبرالي ليحمل المبادئ السياسية لهؤلاء. وبعد أن تركت على الهامش، ضعفت تلك المثل العليا التي كان هؤلاء يحملونها.
وابتلع الاضطراب في السنوات الأربع الماضية العديد من المتظاهرين الأوائل وطموحاتهم، حيث قتل مئات الآلاف من المدنيين وسجن ما لا يقلّ عن هذا العدد. ولأنهم لم يكونوا مهيأين للفراغ الذي أنشأوه من خلال إسقاط الطغاة، فقد تمّ التفوق على الليبراليين والتقدميين بسهولة. أخذت السياسة الواقعية زمام الأمور، وتناثر النشطاء إما في الخارج، أو في السجن، أو في عزلة الصمت ببساطة. واليوم، كما قال لي أحد هؤلاء النشطاء، الكثير من زعماء ميدان التحرير هم في مانهاتن!
ومع ذلك، هناك اليوم العشرات من الليبراليين العرب في جميع أنحاء العالم ممن يقولون إنهم يعملون على حماية المكاسب التي تحققت والبناء عليها، ومن بين هؤلاء بعض اللاعبين المحوريين في انتفاضات عام 2011.
ويقول أحمد بن شمسي، وهو كاتب مغربي أسس موقع أخبار العرب الأحرار: “أعتقد أن هناك اتجاهًا لا يمكن عكسه، وهذا الاتجاه هو الاتجاه نحو الليبرالية”. وأضاف: “سيكون هناك تغيير عميق وجذري في العالم العربي في أقل من جيل واحد”.
وإذًا، أين ذهب التقدميون الذين أشعلوا الربيع العربي؟ العديد من أولئك الذين ما زالوا يقاتلون من أجل هذه القضية يبنون الشركات، والمنشورات، والجمعيات الخيرية الجديدة، التي لا زالوا يعتقدون أنه يمكنها أن تسفر عن حدوث تغيير، إن لم يكن ثورة، في الوقت الراهن. وكتب الناشط الفلسطيني، إياد البغدادي، على تويتر صباح اليوم، في الذكرى الرابعة لبدء الربيع العربي: “لم يكن الأمر سهلًا، ولم يصبح سهلًا بعد”. إلا أنه أضاف: “لكننا سنصل إلى هناك”.
** ** **
لا أحد في هذه القصة كان يتوقع أن تصبح مكتوبة قبل الربيع العربي. هؤلاء الناشطين كانوا، في عام 2010، شبانًا ليس لديهم سوى أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم، والأصدقاء الذين يشاركونهم نفس التفكير. كتبوا في نفس المنتديات على شبكة الإنترنت. وكانوا يترددون على نفس الأماكن، مثل مقهى ريش بالقرب من ميدان التحرير في القاهرة أو كوستا كوفي في البحرين.
وبحلول أواخر عام 2010، أميرة يحياوي، على سبيل المثال، كانت جزءًا من مجموعة من نشطاء الإنترنت في تونس الذين كانوا يحاولون اختبار حدود التعبير في الفضاء الإلكتروني.
وكان عدد هؤلاء النشطاء هو حوالي 300 في المجموع، منتشرين في جميع أنحاء البلاد وخارجها، ولكن كان عشرة أو عشرون من بينهم هم الأشخاص الأكثر نفوذًا. بعضهم كانوا جيدين في القرصنة؛ والبعض الآخر يحب الكتابة. وكما تقول يحياوي: “الجميع كان يعرف الجميع. كنا جميعًا أصدقاء”.
وعندما قام بائع فاكهة شاب فجأة بالتضحية بنفسه، مما أثار أول احتجاجات الربيع العربي في سيدي بوزيد، تونس، يوم 17 ديسمبر من نفس العام، أصبح للجماعة هدفٌ. كان أحد الناشطين في الجماعة ممن كبروا في مسقط رأس الاضطرابات، وبالتالي تولى هذا الشخص مسؤولية تتبع الاحتجاجات.
آخرون قاموا بمراقبة وسائل الإعلام الاجتماعي ونشر أشرطة الفيديو. وأما يحياوي، التي كانت قد نفيت إلى فرنسا لعملها المضاد للرقابة قبل خمس سنوات، فتولت مهمة الاتصال مع الصحافة الدولية. وبشكل عفوي، كما تقول الناشطة التونسية: “أصبح لكل فرد وظيفة يؤديها”.
ولم يكن هناك وقت في تلك المرحلة للتفكير بتوجه فكري أو أيديولوجي. وتقول يحياوي: “لم يكن لدينا استراتيجية لإسقاط النظام”. وأضافت: “لقد كانت حربًا، وكنا جنودًا. لم نكن جنرالات؛ كنا جنودًا فقط؛ وكان علينا أن نستمر بالهجوم”.
ولكن كانت هناك مبادئ مشتركة بين أولئك الثوار الأوائل، وأول هذه المبادئ هو التعطش للعدالة التي كانت قد فقدت في ظل الدكتاتورية. ومع بساطة رسالتهم، وجدت الطليعة الأصلية من الناشطين نداءً مشتركًا، بما في ذلك مع العديد من الذين لم يكونوا يفكرون مثلهم. وعلى عكس الحركات الاجتماعية السابقة، لم تكن هناك حاجة للتنظيم على المستوى الشعبي قبل المظاهرات.
ووفرت وسائل الإعلام الاجتماعي خط اتصال مباشر مع أي شخص لديه هاتف محمول. وعندما وصل أ.ب، وملايين آخرون مثله، إلى الاحتجاجات، لم يكونوا يعرفون من هم الذين ينظمونها، ولم يكونوا يريدون أن يعرفوا ذلك حتى خوفًا من اتهامهم بالتآمر. ويقول بنشمسي: “لقد تم التغلب على الناشطين الليبراليين، ولكن الحشود الهائلة استمرت باللعب وفقًا لقواعد المبادرين”.
وتتذكر أطياف الوزير الذهاب إلى أول احتجاج لها في صنعاء، اليمن، وعدم معرفتها لشخص واحد هناك. إلّا أنه، وفي غضون أيام من الاعتصام بين خيام المحتجين، كانت المدونة اليمنية قد اجتمعت بالناس الذين سيصبحون فيما بعد أفضل أصدقاءها. وتقول الوزير: “بين التقدميين، الجميع شعر أنه وحده حتى حدثت الثورة”. وتضيف: “التقوا بعضهم البعض، وأدركوا أنهم لم يكونوا وحدهم”.
وشهدت الأيام الأولى من الاحتجاجات شيئًا أكثر أهمية في بعض النواحي من الاضطرابات نفسها. ويوضح هذا الشيء سليمان الجاسم، وهو ليبرالي من حركة المعارضة في الكويت التي جمعت عشرات الآلاف في الشوارع عام 2012، قائلًا: “هؤلاء الناس الذين لم يحدث أن تحدثوا إلى بعضهم البعض من قبل، هم الآن على نفس الجانب”. وأضاف: “كان يجري إعادة رسم الخريطة الاجتماعية”.
** ** **
بدأ الناشط رامي يعقوب يشعر بالخوف عندما بدأت الثورة في مصر بالنجاح. لأسابيع في ساحة التحرير في القاهرة، الصراخ ضد الشرطة والسياسيين من الطراز الأول كان كافيًا. لم يكن الناشطون هناك ينامون؛ الأصدقاء ماتوا؛ الكل تعرض للندوب بسبب هراوات الشرطة أو ما هو أسوأ؛ ولكن هذا كله كان تقدمًا.
وبصرف النظر عن الأهداف المباشرة، كانت المجموعة الأساسية من المحتجين تضع القرارات بشأن المستقبل. ويقول يعقوب: “كان هناك الكثير من الحديث السياسي، والسؤال هو: هل نحن ذاهبون للعمل مع الأحزاب السياسية، أم نحن ذاهبون لإسقاط النظام بأكمله إلى الأسفل؟”.
وبالنسبة لكثير من الناشطين الرائدين في مصر وتونس وليبيا وأماكن أخرى، كانت السياسة لعنة على كل ما كانوا يعملون لتحقيقه. الجماهير بلا قيادة كانت تقوم بإسقاط الأنظمة، إذًا كيف يمكنها أن تخضع إلى السلطة؟ وأليس من شأن هذا أن يخاطر بخلق نفس العدو الذي كانوا قد هزموه للتو؟ وفي المغرب، على سبيل المثال، عقدت حركة احتجاج 20 فبراير اجتماعات تنظيمية، محكومة تمامًا بتوافق الآراء، ولكنها استمرت ساعات من دون أن تسفر إلا نادرًا عن قرارات.
ودافع يعقوب، الذي كان قد درس في الولايات المتحدة وتدرب ذات مرة مع عضو مجلس الشيوخ الأمريكي (الديمقراطي بيل نيلسون من ولاية فلوريدا)، عن مزيد من التنظيم. وقال: “كان من الواضح بالنسبة لي أننا قمنا بإنشاء فراغ، وأن شخصًا ما سوف يقوم بملئه. ألا ينبغي علينا أن نقوم بالتحرك؟”.
وكان آخرون يحذرون أيضًا من أنه إذا لم تقم الطليعة الليبرالية بالتنظيم، فإن شخصًا آخر سيفعل ذلك. وجادل البغدادي، الناشط الفلسطيني، في فيديو بعنوان “هل فشل الربيع العربي؟“، من شهر أغسطس 2011، قائلًا: “نحن نقوم بتشتيت أنفسنا عن المشكلة الحقيقية … والمشكلة الحقيقية تكمن في الفراغ الفكري”. وتابع: “إيجاد حل سياسي أمر متروك لنا … وإذا فشلنا في التوصل إلى حل، فإن الوضع الراهن من الاستبداد سوف يأخذ زمام المبادرة”.
وقد خسر يعقوب وغيره هذا النقاش، واستولت مجموعة أخرى على المبادرة. الجماعات الإسلامية، والتي ترتبط في الغالب بالإخوان المسلمين، ورغم أنها لم تشارك في الاحتجاجات الأولى، كان لديها أيديولوجية وآليات تسمح لها بالفوز في الانتخابات. وجادلت مجموعة الإخوان، التي تأسست في مصر، ولكن لديها الآن فروع في جميع أنحاء المنطقة، بأن الإسلام يوفر المبادئ التوجيهية للحكومة.
ومن القاهرة، إلى السويس، إلى الإسكندرية، كان لدى الإخوان المسلمين حلفاء في كل حي وزاوية عندما عقدت أول انتخابات برلمانية في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2011. كما استغل حزب النهضة في تونس عمله على مستوى القاعدة الشعبية لعقود من الزمن في حشد الأصوات له.
وفي البحرين، كان لدى المجموعة الإسلامية الشيعية، الوفاق، ممثلان في كل قرية وشارع، وبالتالي كانت مستعدة لقيادة الحركة الاحتجاجية هناك. ولكن أفكار كل هذه المجموعات، من حيث الأعراف الاجتماعية وحقوق المرأة، تتعارض تمامًا مع الأفكار الليبرالية عن الحرية الشخصية.
ويقول وسام طريف، وهو ليبرالي لبناني ممن نشروا الأخبار الأولي للانتفاضة السورية: “لمدة 50 عامًا، كان المكان الوحيد الذي سمح الناس الجلوس والحديث فيه هو المسجد. وإلى حدٍّ كبير هذا هو السبب في أن الإسلاميين كانوا مستعدين تقريبًا”. وأضاف: “أستطيع تنظيم اجتماع مع 30 شخصًا يشاركونني نفس التفكير، ولكن الرجل في المسجد لديه الفرصة كل يوم جمعة لتبشير الآلاف، ومن دون بذل جهد يذكر”.
وانضم يعقوب لحزب مصر الحرة، وهو الحزب الليبرالي الجديد، الذي قدم محمد البرادعي كمرشح للرئاسة. وكما يتذكر يعقوب: “كان هناك 56 مكتبًا في جميع أنحاء البلاد”، ولكن عند انضمامه للحزب، وجد أنه لم يكن هناك مكتب سياسي على الإطلاق.
وبعد سنة من الاضطرابات، أصبح واضحًا أن كوادر الإنترنت الشابة التي بدأت الاحتجاجات قد تم تجاوزها سياسيًا. ولافتقارهم إلى الرغبة أو الأدوات لبناء منصة سياسية متماسكة، لم يكن من المهم أن لدى هؤلاء الخط الفوري المباشر للتواصل مع الملايين عبر وسائل الإعلام الاجتماعي.
وفي أول انتخابات برلمانية في مصر، فاز العلمانيون، والليبراليون، واليساريون، مجتمعين ب 16 في المئة من المقاعد، بينما حصلت جماعة الإخوان المسلمين وحدها على 45 في المئة من المجلس.
** ** **
ولعل أعظم ما فعله نشطاء الربيع العربي هو قدرتهم على إثبات أن العنف ليس ضروريًا لتغيير الأنظمة. وبينما سقطت أحجار الدومينو في تونس ومصر، كان القادة في أماكن أخرى يراقبون عن كثب: إذا كان اللاعنف قد أطاح بالأنظمة، فإن العنف هو الوسيلة الوحيدة لبقاء الأنظمة.
وكانت الحملات سريعة وهادفة، وليست فقط ضد المتشددين، بل أيضًا ضد نفس النشطاء السلميين الذي كانوا يدافعون عن العدالة الاجتماعية والاعتدال. وفي البداية، كانت الهجمات بهدف إلهاء الناشطين تكتيكيًا.
وبينما كان يقوم بالاتصال مع نشطاء وسائل الإعلام الدولية من مقره في لندن، كما يذكر الكاتب الليبي غازي جيلباوي، كان آخرون في شبكته يجهزون أشرطة الفيديو للنشر على الإنترنت، على أمل أن يتدخل العالم الخارجي. وقال جيلباوي: “إن الطريقة الوحيدة بالنسبة لك للرد كناشط سلمي هي التوثيق”.
وفي البحرين، تسامحت العائلة الحاكمة بحذر مع الاحتجاجات في الأيام الأولى. ولكن مع تزايد المظاهرات، ازداد قلق هذه العائلة. وألقي القبض على رئيس المجتمع السياسي الليبرالي، وعد إبراهيم شريف، في 17 مارس 2011.
وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، داهمت السلطات منزل محمود اليوسف، المعروف باسم “أبو البلوق” في البحرين، والذي كان قد كتب في وقت سابق إنه يفضل “التعقل والتسامح”، والمعالجة الجذرية للظلم، لإنهاء الاضطرابات.
ويقول زعيم آخر للاحتجاج، وهو نبيل رجب، أحد أبرز الليبراليين في البحرين: “هذه هي المرة الأولى في تاريخنا التي يكون فيها رجل ليبرالي من دون أي خلفية دينية رئيسًا لحركة اجتماعية”. وأضاف: “إننا نضغط من أجل حقوق الإنسان. هذا ما يخيف الحكومة، وهذا هو سبب وضعي في السجن”.
وبينما اشتعل العنف من قبل الأنظمة الخاصة بهم، تعامل كل من الليبراليين بوسيلته مع القمع. وفي ليبيا، فقد نشطاء الأمل في نجاح الثورة غير العنيفة. ويتذكر جيلباوي صديقه الناشط الإلكتروني الذي “كان لديه موقف سلمي مثلنا جميعًا”، ولكنه تراجع ذات يوم بعيدًا، ليصبح مقاتلًا.
وفي سوريا، كانت الحملة ضد المعتدلين لا ترحم منذ الأيام الأولى. وفي يوليو 2011، وجد المغني الشعبي إبراهيم قاشوش، صاحب أغنية “يالله ارحل يا بشار“، مذبوحًا في نهر العاصي. وعندما بدأ الصراع بالتسلح، استهدف الأسد المتمردين الأكثر اعتدالًا بشراسة، مما أدى إلى ازدهار المتطرفين.
العنف أهلك صفوف الناشطين. ويقول طريف: “أعتقد أنه لا يزال هناك العديد من الناس ممن لديهم أهداف حقوق الإنسان والديمقراطية داخل سوريا”. ويضيف: “لكنهم أقل وضوحًا، والدور الذي يقومون به حاليًا هو أقل أهمية بكثير”.
ومن الناحية النفسية، أيضًا، يقول نشطاء من مصر، إلى البحرين، إلى تونس، إن العديد منهم عانوا من الاكتئاب والتوتر. وحتى أ.ب، والذي اعتقل أربع مرات وما زالت آثار التعذيب على جسده حتى اليوم، يعرف أن العنف قد غير كل شيء.
ويقول: “بعد أول تجربة لي في السجن، لم أعد أريد الحرية”. وأضاف: “ولكن بمجرد أن تقول لا لهذا النظام مرة واحدة، يصبح من المستحيل أن تتمكن من التراجع. معظم الناس الآن يحملون السلاح، وهم يعرفون أنهم إذا استسلموا، فإن النظام سينتقم منهم بأبشع الطرق”.
** ** **
ومنذ البداية، تساءل نشطاء الربيع العربي الأوائل عما إذا كانت الولايات المتحدة مع أو ضد قضيتهم. والرسائل الأولية لمصر أدت إلى حيرة حول ما إذا كان يجب أن يبقى الرئيس حسني مبارك أو يرحل. وقد دفع القذافي في ليبيا خارج السلطة بمساعدة الضربات الجوية للناتو، ولكن بقي الأسد في سوريا في السلطة ليقوم بإسقاط البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية على السكان.
والسؤال الأكثر أهمية كان ما إذا كانت واشنطن تعتقد بأن الشباب والتقدمية يمكن أن ينجحوا أم لا. وقال بنشمسي موضحً رد فعل واشنطن التي يعيش فيها الآن: “هناك افتراض أساسي بأن التدين والتقاليد المحافظة هي كل ما تعرفه العروبة”. وأضاف: “عندما كنت أنا والآخرون نأتي بالأفكار الليبرالية، كان هناك افتراض بأننا لا نمثل أحدًا”.
ويقول بعض الليبراليين إن الدليل على ما سبق هو كيفية تقرب الولايات المتحدة بسرعة من حكومة الإخوان المسلمين في مصر. ويقول لاري دايموند، وهو زميل بارز في معهد هوفر وشارك في تحرير مجلة الديمقراطية: “يمكننا أن نكون داعمين عميان لنظام استبدادي إسلاميين، بقدر ما كنا داعمين عميان للنظام العلماني”.
وفي هذه الأثناء، عرف النشطاء أن أكبر تهديد لمكاسب ثوراتهم كان أن التقدم لن يأتي بسرعة، مما سيؤدي بالجماهير إلى الشعور بالحنين إلى النظام القديم. وعندما احتاجت التحولات المطلوبة للحفاظ على ثقة الجمهور إلى المساعدة، كان الرد من واشنطن هزيلًا، ومضللًا أحيانًا.
** ** **
وبعد أربع سنوات من إسقاط الطغاة، أصبح النشطاء الأوائل لانتفاضات الربيع العربي يعرفون كم بسهولة من الممكن أن يضيع النجاح. ومن بين الأولويات الأكثر إلحاحًا بالنسبة للكثيرين منهم الآن، أولوية الحفاظ على ما تبقى. ويقول جيلباوي: “مهما كانت مكاسبك، من الممكن عكسها. وأية حريات تحققها من الممكن أن تضيع، وبسرعة”.
وكانت أول الأشياء التي تم فقدانها هي الناس أنفسهم. العشرات من النشطاء، من مصر والبحرين وليبيا وسوريا واليمن، حزموا حقائبهم وغادروا، نتيجة انعدام الأمن أو الحاجة الاقتصادية. وفي عام 2013، كان هناك ارتفاع بنسبة 288 في المئة في عدد طالبي اللجوء إلى أوروبا عن طريق القوارب من مصر وليبيا، مقارنةً مع العام السابق. وفعل الأمر نفسه 25500 سوري في نفس العام.
وأ.ب يقضى الكثير من وقته في تعلم السويدية ومساعدة والدته، التي تبكي كل يوم لأنها بعيدة عن وطنها، وتسأله: “لماذا أخذتني من دفء بلدنا وأسرتنا إلى برد السويد؟”. والعديد من الناشطين الأوائل في تونس، هم عاطلون عن العمل ويكافحون ماليًا، وفقًا ليحياوي. وتقول الناشطة: “اليوم، لو أخذت قائمة بكل واحد منا، فستجد أن الأغلبية المطلقة منا باتت ضائعة، ومعظمنا لا يعرف ما يجب عليه فعله. معظمنا كان جيدًا جدًا في التدمير، وسيئًا جدًا في البناء”.
ويشير الناشطون أيضًا إلى أن المثل العليا التي ضاعت، وكانت بداية الثورة، يجب رعايتها وتوضيحها من جديد. ويعتقد رجب البحرين، الذي قضى الكثير من وقته في السجن في التفكير بما حدث من خطأ، أن الفشل الأولي في التعبير عن أجندة واضحة كان السبب في التراجع عن الحركة الاحتجاجية في البلاد.
ويؤيده البغدادي، الذي يعمل منذ سنوات في محاولة لوضع الأفكار التي قادت الربيع العربي على الورق، ويقول: “الحرب الرئيسة هي حرب أفكار، وأعتقد أن هذا يجب أن يكون أولوية”. ويضيف: “ما لم نحصل على هذه الأفكار، لن يمكننا بناء أي مؤسسة أو التأثير على أي شيء يحدث”.
وفي الواقع، العديد من الأفكار الأساسية للربيع العربي أصبحت متنازعًا عليها اليوم. وانقسم الليبراليون في مصر حول ما إذا كانت عقيدتهم ممثلة من قبل الحكومة الحالية، التي حمت الأعراف الاجتماعية وأزالت آثار العقيدة الإسلامية من الحكومة، ولكنها شنت حملة صارمة ضد المعارضة. ويقول يعقوب: “هناك الكثير من الناس الذين يفهمون الليبرالية كمعاداة للإسلام، وهي في بعض الحالات كذلك، ولكن هذا ليس جوهرها”.
وعلى الأرض، يقوم البعض الآخر بالبناء على نجاحاتهم الصغيرة من خلال محاولة إعطائها مساحة للنمو. ويعمل يعقوب الآن مع معهد التحرير الجديد لسياسة الشرق الأوسط، وهي مجموعة مقرها واشنطن، يقول إنها سوف تنشر تقارير أكثر عمقًا لجمهور الولايات المتحدة عن مصر.
وأيضًا، من بين هؤلاء الليبراليين هناك بنشمسي، الذي انتقل إلى الولايات المتحدة في عام 2010 بعد بناء المجلات العربية والفرنسية الأكثر مبيعًا في المغرب، والتي جنبًا إلى جنب مع 10 ملايين دولار من الإيرادات السنوية، كان يعمل فيها 100 موظف. وعندما سحبت الحكومة إعلاناتها من هذه المجلات، كانت هذه إشارة لبنشمسي بأن عليه الرحيل، وقال إنه استقال لإنقاذ منشوراته.
وكل هذا يشير إلى إعادة التفكير بالمستقبل بشكل تدريجي، بدلًا من الطريقة الصاخبة بالتغيير. هذه التغييرات هي تغييرات عقلية في جوهرها، ولكنها قد تكون هي الثورة الحقيقية.
وتقول سيرجي العطار، التي تكرس الآن وقتها لجمعية خيرية، هي مؤسسة كرم التي تساعد اللاجئين السوريين في البلدان المجاورة: “السعر مرتفع للغاية، ولكن لا يمكن أن نعود إلى ما قبل الربيع العربي. إنها عتبة تخطيناها”.
وتضيف: “عندما يقول الناس: لماذا نستمر؟ سوريا ذهبت بالفعل، وليس هناك داع لاستمرارنا؛ فإن الجواب هو أن هناك واجبًا. عندما نرى هذا الجيل القادم، نرى أنهم عازمون على العودة وإعادة البناء”.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.