مع اقتراب الموعد.. البنك المركزي يحسم موقفه النهائي من قرار نقل البنوك إلى عدن.. ويوجه رسالة لإدارات البنوك    مأساة في حجة.. وفاة طفلين شقيقين غرقًا في خزان مياه    بن مبارك بعد مئة يوم... فشل أم إفشال!!    الجوانب الانسانية المتفاقمة تتطلّب قرارات استثنائية    لماذا صراخ دكان آل عفاش من التقارب الجنوبي العربي التهامي    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    عبد الله البردوني.. الضرير الذي أبصر بعيونه اليمن    مكاتب الإصلاح بالمحافظات تعزي رئيس الكتلة البرلمانية في وفاة والده    الثالث خلال أشهر.. وفاة مختطف لدى مليشيا الحوثي الإرهابية    هجوم حوثي مباغت ومقتل عدد من ''قوات درع الوطن'' عقب وصول تعزيزات ضخمة جنوبي اليمن    تغير مفاجئ في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    أقرب صورة للرئيس الإيراني ''إبراهيم رئيسي'' بعد مقتله .. وثقتها الكاميرات أثناء انتشال جثمانه    الريال يخسر نجمه في نهائي الأبطال    بعثة اليمن تصل السعودية استعدادا لمواجهة البحرين    انفراد.. "يمنات" ينشر النتائج التي توصلت إليها لجنة برلمانية في تحقيقها بشأن المبيدات    مدرب مفاجئ يعود إلى طاولة برشلونة    ماذا يحدث في إيران بعد وفاة الرئيس ''إبراهيم رئيسي''؟    عودة خدمة الإنترنت والاتصالات في مناطق بوادي حضرموت بعد انقطاع دام ساعات    مدارس حضرموت تُقفل أبوابها: إضراب المعلمين يُحوّل العام الدراسي إلى سراب والتربية تفرض الاختبارات    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    قادم من سلطنة عمان.. تطور خطير وصيد نوعي في قبضة الشرعية وإعلان رسمي بشأنه    أول فيديو من موقع سقوط طائرة الرئيس الإيراني ووصول فريق الإنقاذ "شاهد"    الدوري الفرنسي : PSG يتخطى ميتز    هادي هيج: الرئاسة أبلغت المبعوث الأممي أن زيارة قحطان قبل أي تفاوض    الليغا .. سقوط البطل المتوج ريال مدريد في فخ التعادل وفوز برشلونة بثلاثية    تناقض حوثي مفضوح حول مصير قحطان    غموض يحيط بمصير الرئيس الايراني ومسؤولين اخرين بعد فقدان مروحية كانوا يستقلونها    قبيل مواجهة البحرين.. المنتخب الوطني يقيم معسكر خارجي في الدمام السعودية    إلى متى نتحمل فساد وجرائم اشقائنا اليمنيين في عدن    مصدر برلماني: تقرير المبيدات لم يرتق إلى مستوى النقاشات التي دارت في مجلس النواب    إنتر ميامي يتغلب على دي سي يونايتد ويحتفظ بالصدارة    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    الجامعة العربية: أمن الطاقة يعد قضية جوهرية لتأثيرها المباشر على النمو الاقتصادي    وزير المياه والبيئة يبحث مع المدير القطري ل (اليونبس) جهود التنسيق والتعاون المشترك مميز    عدن.. وزير الصحة يفتتح ورشة عمل تحديد احتياجات المرافق الصحية    رئيس هيئة النقل البري يتفقد العمل في فرع الهيئة بمحافظة تعز مميز    رئيس الهيئة العليا للإصلاح يعزي الهجري في وفاة والده    تقرير: نزوح قرابة 7 آلاف شخص منذ مطلع العام الجاري    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربيع العرب.. الفائزون والخاسرون والمراوحون مكانهم
نشر في عدن الغد يوم 03 - 05 - 2012

انفتح ملف السلطة في بلاد العرب مع تلك الموجة العاتية من الثورات التي اجتاحت بلاد عدة، فأسقطت النظم الحاكمة في ثلاثة منها: تونس ومصر وليبيا، وأرغمت رئيس دولة رابعة: اليمن، على التخلي عن السلطة في إطار صفقة سياسية تفاوض فيها الرئيس المغادر ليس فقط على شروط رحيله، وإنما أيضا على شروط الانتقال من توازن محدد للقوى السياسية إلى توازن جديد بينها. أما في الدولة الخامسة: سوريا، فإن فصول الصراع الدامي بين النظام والمعارضة مازالت تتوالى، وهو صراع مفتوح على احتمالات غير محدودة.
الأنظمة العربية الخمسة المتهاوية هي نظم جمهورية بما قد يستنتج منه أن العقود الستة المنقضية منذ بدأت الجمهوريات العربية في الظهور لم تكن كافية لتوطين النظام الجمهوري في العالم العربي. ففي العالم العربي لم يأخذ العرب من الجمهورية سوى إسمها، بينما قلب الجمهوريات العربية ومبناها كان أوتوقراطيا بامتياز، حتى أنها تحولت في مراحلها الأخيرة إلى جملوكيات، وفقا للتعبير البليغ الذي صكه الدكتور سعد الدين إبراهيم قبل سنوات.
الأزمة في الجمهوريات العربية
توريث الأبناء حكم البلاد كان إعلانا بالوصول إلى مرحلة إفلاس الشكل الجمهوري للحكم بعد أن أفلس محتواه منذ زمن بعيد. فحتى عندما لم يكن هناك أبناء من الذكور المؤهلين لخلافة الأب الرئيس، كانت عائلة الرئيس تحكم وتتحكم، في مؤشر إضافي على أن رابطة المواطنين المتساوين التي تتكون منها الجمهورية هي في بلاد العرب أضعف بكثير من رابطة الدم ومن روابط الطائفة والمذهب والدين والعرق، ومع سقوط الأنظمة انطرح السؤال عن الكيفية التي سيتم بها جمع هذا الشتات الوطني مرة أخرى، وعن نوع السلطة التي يمكنها القيام بذلك، وعن نوع السلطة التي يمكن لشعوب العرب إنتاجها في حالتها الراهنة.

أزمة الجمهوريات في العالم العربي هي أزمة مجتمعات وصلت في لحظة تاريخية سابقة إلى مرحلة تآكلت فيها أسس الشرعية التقليدية بقدر لم يسمح لها بالصمود والتكيف، بينما لم تكن أسس الشرعية الحديثة قد اكتمل تكوينها بعد، ولا كان لديها من قوة التأييد المجتمعي ما يسمح لها بتأسيس الشرعية الجديدة منفردة. لم تنتظر القوى الحديثة اكتمال الشروط وتصليب العود حتى تشرع في الانقضاض على نظم تقليدية متداعية، فانتظار الظرف التاريخي والاجتماعي الملائم ليس من منطق السياسة الثورية التي يحركها التعبير عن الغضب واستعجال التغيير والتقسيم الثنائي البسيط لواقع شديد التعقيد.
أزمة الجمهوريات..أزمة العسكر
انقض الجمهوريون على الحكم وهم غير مكتملي العدد والعدة، فكان عليهم تعويض النقص بقوة الجيش، فتاريخ السلطات العسكرية في العالم العربي يكاد يتطابق مع تاريخ الجمهوريات العربية، فالجيش والجمهورية في العالم العربي هما وجهان لعملة واحدة، ومأزق الجمهوريات العربية هو في الوقت نفسه مأزق جيوشها، ومأزق حكم العسكريين فيها.
حين بدأت شعوب العرب في التمرد قبل عام، لم تكن الجيوش تحكم الجمهوريات العربية بنفس الشكل الفج الذي كان عليه الحال عندما اقتحم العسكر أروقة الحكم لأول مرة، فجمهوريات العرب، ومنذ زمن طويل، لم يعد يحكمها حسني الزعيم أو أديب الشيشكلي أو جمال عبد الناصر أو حتى جعفر نميري من الانقلابيين الأوائل. انتهى زمن الانقلابيين المؤسسين، وإن بقي الجيش بعدهم في الحكم أو قريبا جدا منه. فقد حل محل الانقلابيين المؤسسين فئة العسكر المتحولين الذين قضوا سنوات طويلة على مقاعد السلطة، فتخلوا تدريجيا عن مظاهر الحكم العسكري الأكثر فجاجة، إلا أن مدنية العسكريين المتحولين لم تكن في أغلب الأحوال أكثر من حيلة للتخفي وراء البزات المدنية لزوم استكمال مسوغات الشرعية والتظاهر بتطبيع الأوضاع. فالجيوش العربية ظلت تحكم أو تشارك في الحكم، لكن متخفية خلف واجهات جديدة. لقد اختفت الجيوش من الواجهات لكنها تغلغلت في المجتمع، وبات من الصعب انتزاعها منه دون جراحة قد يذهب المريض نفسه ضحية لها.
غير أن خبرة الجيوش الجمهورية مع الحكم لم تكن متشابهة تمام التشابه، فبين هذه الخبرات فروق مهمة. فقد واصلت الجيوش، أو بالأحرى وحدات مختارة منها، المشاركة في الحكم بشكل مباشر. كان هذا هو الحال في الأنظمة الأمنية التي تم بناء جهاز الدولة وآليات الحكم فيها حول الوظيفة الأمنية وطبقا لاحتياجاتها. هذه هي الحالة السورية بامتياز ومن قبلها الحالة العراقية. وفي الحالتين لم يكن الجيش كله شريكا، ولكن فقط أقسامه الأكثر ولاء للنظام، في ترتيب كان ضروريا في بلاد تعتمد نظام التجنيد الإجباري الذي تصميمه للتطبيق في دولة المواطنين المتساوين وليس في بلاد يسيطر فيها على الحكم أقليات طائفية تفصلها عن عموم المواطنين فجوة كبيرة من عدم الثقة. وتمثل الحالة الليبية تنويعا ينتمي للنموذج نفسه، فكتائب أبناء القذافي كانت تمثل الجيش الشريك، فيما تعمد النظام إهمال باقي وحدات الجيش بسبب غياب تهديدات خارجية حقيقية.

في حالات أخرى كان هناك الجيش الذي يحكم ولا يدير، وهي حالات كان فيها النظام السياسي أقل تمحورا حول الوظيفة الأمنية، فهناك مساحة من السياسة والإدارة متروكة لشركاء آخرين في القبيلة والحزب، فترتيبات حفظ الأمن وبقاء النظام في هذه الحالة أكثر تعقيدا من مجرد الاستخدام المباشر للأداة القمعية، وقد رأينا تطبيقا لذلك في الحالة اليمنية.
وأخيرا كان هناك الجيش المشارك، وهي الحالات التي اكتسب فيها الجيش درجة عالية من الاحترافية والاستقلال الذاتي حتى في تدبير موارده الخاصة بعيدا عن قيود الموازنة العامة للدولة. ووفقا لهذه الصيغة تمتع الجيش بحرية كبيرة في إدارة موارده وشؤونه الداخلية وفقا لتفاهم عريض مع نخبة حاكمة يقودها رئيس قادم من صفوف العسكريين حول نصيب الجيش من المصالح المضمونة التي لا يجوز المساس بها، وحول قضايا الأمن القومي الكبرى، بخاصة قضايا الحرب والسلام والعلاقة مع الحلفاء الرئيسيين. وتجسد الخبرة المصرية هذا النموذج بامتياز.
الجيش والسلطة.. سيناريوهات عدة
هذه النماذج الثلاثة تمثل نماذج مثالية لعلاقة الجيش بالحكم في جمهوريات العرب حتى الماضي القريب جدا، أما بعد انتفاضات الشعوب وسقوط الأنظمة فإن الباب بات مفتوحا لنماذج جديدة للعلاقة بين العسكر والسلطة، وسوف يتوقف المآل النهائي للأمور في كل واحد من بلدان الربيع العربي على الطريقة التي يتم بها الانتقال السياسي وما تنتجه من دولة ما بعد الربيع العربي. فالحرب الدائرة الآن في سوريا، وتلك التي دارت قبلها في ليبيا ستنتج دولا يتمتع فيها من قاتلوا وضحوا بالنصيب الأكبر من السلطة، وربما أعادت دولة ما بعد الربيع في سوريا وليبيا إنتاج حالة استتباع السياسي للعسكري كما عرفناها في حقبة الانقلابات العسكرية في الخمسينيات والستينيات.
وربما كان الجديد في هذه الحالات هو أن الدولة التي ستظهر نتيجة للثورة/ الحرب لن تكون هي نفسها الدولة التي دخلتها. فالأقاليم الفيدرالية التي بدأت في الظهور في ليبيا، وأمراء الحرب الذين يسيطرون على المناطق والمدن المختلفة هناك في تحد صريح لمجلس انتقالي يعاني نقصا في السلاح والشرعية، كل هذا يهدد بانحلال ليبيا إلى مجموعة ولايات تتمتع باستقلال ذاتي عميق، وربما ما هو أكثر من ذلك، على رأس كل منها لوردات الحرب المتحالفين مع زعامات قبلية. شيئا من هذا قد يحدث في سوريا إذا واصل نظام الأسد تعنته، وإذا دخلت خطط تسليح المعارضة حيز التنفيذ. وسواء خرجت سوريا من هكذا حرب أهلية موحدة أم غير ذلك، وسواء انتصرت المعارضة أو سقط النظام، فإن العسكريين سوف يكون لهم يد عليا في نظام الحكم الجديد الذي سيتكون هناك.
التغيير السياسي في مصر حدث سلميا وبدعم قوي من الجيش، بما كان يؤهل الأخير لاحتلال مكانة بارزة في النظام السياسي ما بعد الانتقالي لولا الأخطاء الفادحة التي ارتكبها المجلس العسكري، والتي افقدته رصيدا سياسيا كبيرا كان يتمتع به، حتى باتت المطالبة بإنهاء حكم العسكر مطلبا يحظى بقبول واسع. فقد تصدر العسكريون في مصر مقدمة المسرح السياسي بعد أن أرغموا الرئيس مبارك “بلطف” على الرحيل، وكان لهم أن يعيدوا صياغة المشهد السياسي حسب ما يرونه ملائما لهم، لكنهم أهدروا الفرصة تلو الأخرى. إلا أن المؤسسة العسكرية “المهزوزة” سياسيا مازالت تحتفظ بقدراتها ووحدتها وانضباطها بما لا يوحي بأنها في وارد القبول الكامل بالخضوع لسلطة مدنيين منتخبين.
فجوة الثقة العميقة بين العسكريين والسياسيين، بمن فيهم “الإخوان” الأكثر استعدادا لمسايرة الجيش، والأقل رغبة في حدوث صدامات تهدد الفرصة التي انتظروها طويلا لاستلام السلطة، هذه الفجوة لا تجعل الخضوع الكامل للجيش لسلطة مدنية منتخبة أمرا مرجحا، فالتدرج والمرحلية الإخوانية لا تكفي لبناء الثقة مع مؤسسة عسكرية تقوم عقيدتها على الشك عندما يتعلق الأمر بالأمن. أسباب الشك بين الجيش والسياسيين في مصر تتزايد بسبب ما يخرج عن الإخوان بين الحين والآخر – رغم انضباطهم – عن أهدافهم البعيدة، وأيضا بسبب المصير الذي آل إليه مبارك وعائلته رغم محاولات الجيش تجنيبه هذا المصير. هذه الأجواء لا تنتج علاقة مستقرة بين الطرفين، ولكنها تنتج حالة من التربص المفتوحة على احتمالات عدة. فقد تتطور العلاقة بين الطرفين إلى تحالف وتقسيم عمل باكستاني الطراز، أو قد يحاول الجيش العودة مرة أخرى لواجهة المشهد السياسي مستفيدا من أخطاء سوف تقع، واضطرابات ستحدث، وإخفاقات غير مستبعدة.
ربيع العرب.. حصاد الإسلاميين
الإسلاميون هم الطرف الثاني في المعادلة الجديدة للسلطة في جمهوريات الربيع العربي. صعود الإسلاميين هو الوجه الآخر لإخفاقات العسكريين التاريخية في تحويل بلاد حكموها إلى نماذج تلهم وتلهب حماس الناس للتمسك بها والدفاع عنها. الرابطة الوطنية والإيديولوجيات القومية للعسكريين لم تتجاوز مرحلة المفاهيم الافتراضية والأفكار الرغبوية، فعززوا الطلب الاجتماعي على إيديولوجية دينية لها في التربة والتاريخ جذور عميقة.

إسلاميو الربيع العربي متنوعون بين سياسيين إخوانيين لهم مشروعهم ذو الخلفية الدينية، وسلفيين يخطون خطواتهم الأولى في مجال السياسة. لا يوجد في بلاد الربيع العربي من القوى السياسية والإيديولوجية من يمكنه إيقاف زحف الإسلاميين نحو السلطة، ولكن في بعض بلاد الربيع العربي هناك الواقع المعقد وبعض القوى التي قد تستطيع دفعهم لإبطاء الخطى، وفي الإبطاء اعتدال يفتح الباب لممكنات جديدة.
الإسلاميون ليسوا بالقادم الجديد على ساحة السياسة العربية، لكنهم بالتأكيد محدثون على مقاعد السلطة. لدينا في تاريخ الجيوش والسلطة ما يساعدنا على رسم سيناريوهات للمستقبل، لكن ليس لدينا الشيء نفسه عندما يدور الحديث حول الإسلاميين. للإسلاميين خبرة متراكمة ودهاء تعلموه في سنوات القمع والاستبعاد الطويلة. لكن الإيديولوجيا الإسلامية في جوهرها إيديولوجيا شمولية راديكالية تنشد التغيير الجذري للمجتمع والدولة والداخل والخارج والعالم أجمع. وكما أن الحذر لا يمنع القدر، فإن الخبرة والدهاء قد لا يمنعان الإيديولوجيا من أن تفرض منطقها الشمولي الراديكالي على اختيارات السياسة، خاصة عندما يتعلق الأمر بمقعد سلطة طال انتظاره.
التغيرات التي ستحدث حتما للإسلاميين في مقاعد السلطة هي عامل مهم يجب أخذه بعين الاعتبار. الكتلة الإسلامية التي تبدو من الخارج موحدة ليست كذلك في حقيقة الأمر. صعود السلفيين المتشددين يضع الإخوانيين تحت ضغط وإن أعطاهم برهانا كانوا يبحثون عنه للتدليل على اعتدالهم. مازالت عملية الانتقال في بدايتها، ومع هذا فعلامات التشقق والصدوع أخذت في الظهور على الجسد الإخواني الكبير. هناك إخوان متسلفون، وآخرون قريبون من مواقع الليبرالية الوطنية ذات التقاليد الإسلامية، وبين الفريقين فئات كثيرة أخرى. هناك من الإخوان من يلتزم حذرا يراه زملاء له انتهازية لا تجوز في زمن الثورة، وهناك من يريد مواصلة الثورة والبقاء في صفوف الائتلاف السياسي والاجتماعي العريض الذي أنجزها.
ازدواجية الحزب والجماعة معضلة تواجه الإخوان المسلمين في مصر وبلاد أخرى. مازال الحزب يأتمر بأمر الجماعة وسوف يظل كذلك لبعض الوقت. لكن عندما يستقر أهل الحزب على مقاعد السلطة، وعندما تكون لهم قواعد تأييدهم الخاصة بهم بعيدا عن الجماعة فإن اتجاه إصدار الأوامر والتعليمات قد يتغير، كما قد تتصادم الأوامر والتعليمات التي تتحرك في اتجاهين متعارضين. حدث هذا في السودان عندما جلس بعض الإسلاميين في مواقع السلطة بينما بقي البعض الآخر في صفوف الدعاة، ويمكن له أن يتكرر في بلاد أخرى. صراع إخوان السلطة مع إخوان الجماعة يفتح بابا جديدا للعسكريين، وربما سعى الأخيرون لفتح هذا الباب بشكل قصدي.

فرصة الجيوش العربية في البقاء في السلطة أو المشاركة فيها أو في الحفاظ على وضع خاص طالما تمتعوا به مرهونة إلى حد كبير بالطلب الاجتماعي على الاستقرار والنظام. الربيع العربي أطلق الرغبة في التغيير لدى الكثيرين، لكن الأغلبية من الناس مازالت تطلب النظام والاستقرار. مشكلة العسكريين هي أن الأغلبية من الناس غير قابلين للتعبئة التي تنطوي على مخاطرة. حاول المجلس العسكري الحاكم في مصر المراهنة على الأغلبية الصامتة لكن محاولته باءت بالفشل. أقصى ما يمكن للأغلبية الصامتة أن تفعله هو أن تهمس بصوتها في صندوق الانتخابات وراء ستار، وعندما فعلت فإنها أعطت صوتها للإسلاميين، فالجيش لم يكن له مرشحا.
الأغلبية الصامتة المعتدلة لا ترى في الإسلاميين ما يراه فيهم خصومهم من راديكالية وشمولية دينية. الأغلبية الصامتة تفترض حسن النية وليس لديها الكثير مما يدعو للشك لا في الجيش ولا في الإسلاميين. مشكلة الإسلاميين والجيش هي أنهم يتنافسون على نفس قاعدة التأييد الاجتماعي، وصراعهم غير المحسوب يهدد بتمزيق هذه القاعدة، وتحالفهم أو مسايرة بعضهما البعض له مؤيدوه الكثيرون بين عموم الناس. التعايش بين الإسلاميين والجيش ليس بدعة في بلاد المسلمين فبينهما من المشتركات الكثير. القيم المحافظة، وتقديس الانضباط والنظام، والشك في الحرية، والتشكك في الغرباء، كلها قيم مشتركة تعزز فرص التعايش أو حتى التحالف بين العسكريين والإسلاميين أو بعضهم.
دول جديدة.. وأشكال جديدة للسلطة أيضا
العسكريون أوالإسلاميون أو درجات مختلفة من التحالف بينهما كلها احتمالات ممكنة لطبيعة السلطة التي ستظهر في بلاد ربيع العرب في مقبل الأيام، لكن الأمر أولا وأخيرا يتوقف على شكل الدولة التي ستظهر في المنطقة في نهاية هذا التسونامي الثوري العظيم. فالجنرال والشيخ في النهاية سيحكمون دولا، لكن بعض دول المنطقة قد لا تنجح في اجتياز العاصفة بسلام. فقد يتفكك بعض هذه الدول بشكل نهائي، وتحل محله دول عدة تكتسب الشرعية والاعتراف بعد فترة من الزمن، وقد تصمد بعض الدول ولكن ليس في شكل الدولة المركزية التي تقوم بتطبيق قوانينها الموحدة على كل أرجاء الوطن، إعمالا لنموذج الدولة – الأمة التي أخذت عندنا اسم الدولة الوطنية. العالم العربي لا يعرف أمما تعيش داخل دول وتتحدد بحدودها، ولكن لدينا جماعات بشرية بينها علامات هوية مشتركة، لا هي تشمل عموم المواطنين، ولا هي تقف عند حدود الوطن.
فأشكال الحكم الفيدرالي، أو الفيدرالية الواقعية التي تظهر عندما تضعف سلطات الدولة وتصبح عاجزة عن إعمال القانون على كامل الإقليم الذي تحكمه، فتظهر مناطق شاسعة بعيدة عن المركز وبالقرب من الأطراف/ الحدود، أو جيوب صغيرة تضعف فيها سلطة الدولة، ويحل محلها أشكال متنوعة من الزعماء المحليين من بين شيوخ القبائل، أو الزعماء الدينين المحليين، أو من لوردات الحرب الذين سيظهرون في الدول التي يسقط النظام الحاكم فيها بعد فترة من العنف الأهلي، كما قد تقع السلطة المحلية في النهاية في يد جماعات دينية متطرفة لها أجندات عالمية صريحة.
المهم في كل هذا هو أن سلطة الدولة الوطنية المركزية لن تكون هي الشكل الوحيد للسلطة في زمن يأتي، فالسلطة قد تكون تعددية أو تشاركية حتى مع عودة الجيوش ومع حكم أصحاب إيديولوجيات شمولية، فيا لها من مفارقة.
*من د. جمال عبد الجواد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.