دونما توضيح، ستعرف تماما ما اقصد؟ بالتأكيد إنها السياسة؟ وهل هناك شيء أكثر دمارا للعقل كالسياسة؟ وفي مجتمع كالمجتمع الجنوبي وخاصة عدن يستحيل أن تعيش دون أن يصيبك هذا الوجع المزمن. وعلى الرغم من أنني أتجنب أن أخوض في السياسة خاصة في الأماكن العامة، أي أنني أحاول أن أكون مسكين و"ماشي جنب الحيط" - فيما يتعلق بالسياسة- إلاّ أن هناك شيء يشبه السحر لا تستطيع أن تقاومه ولا بد من المشاركة، فالصداع السياسي منتشر في كل متر مربع في عدن: في الباص، في المقهى، في الجامعة، وحتى في البيت؟ وأجزم أنني لا أحب الخوض في أية أحاديث سياسية لمجرد إبداء الرأي، ولكنني أجدني مرغما على تصحيح كمية المعلومات الخاطئة والمتراكمة أثناء أحاديثهم؟ وثمة من يستجيب ولكن السواد الأعظم تأخذه العزة بالإثم وتجده فجأة يكيل لك الاتهامات ظلما وعدوانا لمجرد أن صححت له المعلومة التي هو بصدد الحديث عنها! كيف لي أن أحاورك يا صاحب الصوت الناعق، ويا من تظن أنك تفهم في كل الأمور، في السياسة والاقتصاد والرياضة في الفلك... في كل شيء؟ ويا ليته يناقش كي يصل إلى الحقيقة؟ كلّا، إنّ نقاشه مبني على أن يحصرك في زاوية هو اصطنعها، وتجده يتكلم منتشيا بتراهات لا أساس لها من الصحة.
إنني أحاول في كل مرة أن أغض الطرف حتى لو تم استفزازي بمعلومات مغلوطة، وحتى لو كان النقاش مبنيا على شائعات! ولكني أجدني لا إراديا أصحح وأساعد وامنح معلومات حقيقية لأنني أعتقد أنه واجب اجتماعي، لأن ما حصل من تدهور في البنية الثقافية للجنوب كانت أسبابه بالتأكيد سياسية وهي عبارة عن تراكمات عبر السنين، إلا أن الخطيئة الكبرى هي عزوف المثقفين الجنوبيين من الانخراط في المجتمع كي يمنحوا هذا المجتمع فرصة الاحتكاك بهم واستلهام المعلومات والتحليلات الواقعية المبنية على تحليل دقيق وصحيح، حتى يكون للنقاش معنى وللحوار هدف، وما العلم إلا بالتعلم!.
غياب المنابر التنويرية واختفاء الروح الثقافية أدّ إلى انتشار ما يسمى "بالتخلف الاجتماعي"، ونتيجة لذلك شاهدنا مجتمع يتسم بالتخلف حتى على مستوى النقاش العادي، فالنفَسُ الطويل والتحكم بالأعصاب أثناء الحديث أصبحت أمور منقرضة تماما، بل أصبح الناس يعلقون الأعذار على شماعة الغضب، فتجد أحدهم يقول لك أن فلان مشهور بغضبه وأنه لا يتمالك أعصابه؟ حسنا، ولكن من سمح له أن يفقد أعصابه؟ وهل نحن في غابة؟ وإذا كان عصبيا فهذا ليس مرضا بل إنها عادة مقيتة؟ والسيطرة على النفس أثناء الغضب هي عبادة حث عليها ديننا الحنيف، فكيف لنا أن نُعطي الأعذار لأناس يستغلون تخلف المجتمع كي ينفردوا بغبائهم وسطوتهم بحجة" التعصيب" الغضب؟ إذن لا يوجد هناك مرض اسمه الغضب، بل يوجد هناك أناس مرضى يجب علاجهم والأحرى أن يسارعوا إلى علاج أنفسهم بأنفسهم وذلك من خلال السيطرة على النفس وتمالكها عند الغضب. عدا ذلك يوجد أناس يستعملون مهدآت نفسية تؤدي بهم إلى نهر اللاعودة، والنهاية حتمية ومعروفة" الإدمان"، وهذا الموضوع مرتبط بالمنابر التنويرية والحملات التوعوية التي أشرت إليها سلفا، ولكن عندما نتحدث عن التوعية فيجب أن نأخذ بعين الاعتبار الحذر الشديد في اختيارنا للمواضيع التوعوية.
ويجب أيضا أن نسأل أنفسنا قبل أن نقيم البرامج التوعوية: لمن نوجه الخطاب؟ للشباب أم الكبار؟ للمتعلمين أم للأميين؟ لأنني وجدتُ أن الندوات التوعوية – في الجنوب- تؤدي الدور المغاير تماما للدور المناط بها، فالندوة التوعوية بمخاطر المخدرات مثلا تأتي بنتائج عكسية وهي" كثرة انخراط الشباب في مجتمع الإدمان أو التعاطي" لماذا؟ لأن تلك الحملات التوعوية تعتمد على اسلوب عشوائي، فهي تعتمد في على إعطاء المعلومة فقط وكأنهم في محاضرة لطلاب"الفارماكولوجي" أو ما يسمى الصيدلة، بينما الأسلوب الأمثل هو الالتزام بالأسلوب التربوي المتكامل الذي يبين اثار هذه المخدرات على السلوك والقيم. أيضا من الأخطاء التي ترتكبها الحملات التوعوية بمخاطر المخدرات عدم تحديد الفئة العمرية؟ فتجدها تستهدف المجتمع الذي لا يجب أن تستهدفه! وبالتالي تمنح فرصة لهولاء الشباب بالتعرف على المخدرات، ويصبح لديهم رغبة شديدة للمغامرة على سبيل التجربة، وهكذا أصبحت هذا الحملات التوعوية كارثية أكثر من كونها توعوية! "قيل لي أن أكثر الشباب تعرفوا على المخدرات من خلال حملات التوعية تلك، ومن خلال الأفلام التي يتم انتاجها بخبث، حيث تصور تاجر المخدرات بأنه بطل لا يقهر؟ فنجد شبابنا ينساقون وراء هذه الخدع دونما وعي، بل إن بعض الشائعات تجعل من تعاطي المخدرات أمرا هيناً مما يجعل الشباب يقدمون على تعاطيها بأرواح عطشى وبعقول غير مدركة تماما لفحوى المغامرة المدمرة التي لن يعودوا منها سالمين، وكل هذا يعود بنا مرة أخرى إلى تلك الحملات التوعوية التي لا تتحرى الدقة في المعلومات أثناء الحديث عن المخدرات، فإما أنها تضخم المعلومات لدرجة لا يمكن تصديقها، أو أنها تستهين بالأمر بحيث يصبح أمرا عاديا يشبه "شرب القهوة".
إن وجع الرأس"السياسة" لا يمكن تشخيصه دون الأخذ بعين الاعتبار بكل ما تم ذكره سابقا. وإن الغرض من السياسة بالنسبة لعامة الناس هو معرفة المصدر الحقيقي للخطر على قضيتنا وعلى سلامتنا وأمننا (وسوف يخدع الدجالون الناس حول هذا الأمر ويوجهون أنظارهم إلى أعداء وهميين كما يفعلون عندما يقتلون ضحاياه ويتهمون آخرين ويصدقهم الناس) ، وإن معرفة نوع ومصدر وهدف الخطر الحقيقي يحتم علينا معرفة ماهية الخطوات الضرورية التي يجب علينا اتخاذها بناء على التحليل الدقيق والعميق، ويجب أن نستعمل أدوات تكشف عمق الأحداث أولا ثم الرجوع إلى التاريخ وإعمال العقول ومن ثم فهم الأمور فهما عميقا جدا لحماية قضيتنا وأرواحنا و لكي نتجنب الوقوع في فخ الاعتباط السياسي والمهازل الوطنية، والتي نشاهد بداياتها الدموية تحدث وسطنا اليوم، وبالتالي فإن هذا الوجع سوف يتحول إلى علاج حقيقي لمشكلة الفهم الخاطئ وسوف تروض النفوس وتصقلها ويصبح الناس يرون الحقائق وينفرون من الشائعات المخادعة. وإنني إذ اختم هذه المقالة يجب أن أشدّ الانتباه إلى أن السياسة لها ارتباط عميق مع كل جزئية من حياتنا، وأنها سلاح ذو حدين، فهي وجع رأس وربما مضاعفات خطيرة لمن أساء استخدامها تماما كأقراص الدواء التي أُسيء استعمالها، وإنها" أي السياسة" علاج مناسب لكل مشاكلنا إذا ما فهمناها واستعملناها بشكل سليم واعتمدنا في فهمنا لها على عقولنا وبصائرنا الثاقبة، وأخيرا أتذكر قولا جميلا لعُمر بن الخطاب- رضي الله عنه- إذا يقول : الرجال ثلاث أنواع:"رجل ترد عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه، وينزل حيث يأمره أهل الرأي، ورجل حائر بائر، لا يأتمر رشدا، ولا يطيع مرشدا".