كما جرت العادة في مقالاتي أيام الحرب ، النقل مما قرأت وتذكرت فيه الفائدة في الظروف التي نحن فيها . . . واليوم أنقل من كتاب كليلة ودمنة لإبن المقفع الذي ترجمه من التراث الهندي لفيلسوف الهند وحكيمها بيدبا . جاء في الكتاب أن الملك دبشليم سأل الفيلسوف بيدبا ، وقال : قد سمعت مثل إخوان الصفاء وتعاونهم، فاضرب لي مثل العدوّ الذي لا ينبغي أن يغتر به، وإن أظهر تضرعاً وملقاً، قال الفيلسوف: من اغتر بالعدو الذي لم يزل عدواً، أصابه ما أصاب البوم من الغربان. قال الملك وكيف كان ذلك...؟
قال بيدبا : زعموا أنه كان في جبل شجرة من شجر الدوح، فيها وكر ألف غراب، وعليهن والٍ من أنفسهن، وكان عند هذه الشجرة كهف فيه ألف بوم، وعليهن والٍ منهن . فخرج ملك البوم لبعض غدواته وروحاته، وفي نفسه العداوة لملك الغربان، وفي نفس الغربان وملكها مثل ذلك للبوم . . . فأغار ملك البوم في أصحابه على الغربان في أوكارها، فقتل وسبى منها خلقاً كثيراُ، وكانت الغارة ليلاً .
فلما أصبحت الغربان اجتمعت إلى ملكها فقلن له : قد علمت ما لقينا الليلة من ملك البوم ، وما منّا إلا أصبح قتيلاً أو جريحاً أو مكسور الجناح أو منتوف الريش أو مقطوف الذنب وأشد مما أصابنا ضراً علينا جراءتهن علينا ، وعلمهن بمكاننا ، وهنّ عائدات إلينا غير منقطعات عنّا ، لعلمهنّ بمكاننا . . . ونحن لك ، ولك الرأي أيها الملك ، فانظر لنا ولنفسك .
وكان في الغربان خمسة معترف لهن بحسن الرأي، يسند إليهنّ في الأمور، ويلقى عليهن أزمة الأحوال . وكان الملك كثيراً ما يشاورهن في الأمور، ويأخذ آراءهن في الحوادث والنوازل . . . فسألهم الملك عن رأيهم...؟
فكان رأي الأول والثاني الهرب من المنطقة . لكن الملك رفض رأيهما وقال : لا أرى لكما ذلك رأياً ، أن نرحل عن أوطاننا ونخليها لعدونا من أول نكبة أصابتنا منه ، ولا ينبغي لنا ذلك . . . ولكن نجمع أمرنا ، ونستعد لعدونا ، ونذكي نار الحرب فيما بيننا وبين عدونا ، ونحترس من الغرة إذا أقبل إلينا ، فنلقاه مستعدين ونقاتله قتالاً غير مراجعين فيه ، ولا مقصرين عنه ، وتلقى أطرافنا أطراف العدو ، ونتحرز بحصوننا وندافع عدونّا : بالأناة مرة ، وبالجلاد أخرى ، حيث نصيب فرصتنا وبغيتنا ، وقد ثنينا عدونا عنّا.
ثم قال الملك للثالث : ما رأيك أنت ...؟ .. فكان رأيه الصلح مع العدو ودفع جزية سنوية له . ثم قال الملك الرابع : وما رأيك في هذا الصلح ...؟ فقال ؛ لا أراه رأياً ، بل أرى أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خيرٌ من أن نضيع أحسابنا ، ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه .
ثم قال الملك للخامس : ما تقول أنت...؟ وماذا ترى : القتال أم الصلح أم الجلاء عن الوطن...؟
قال : أما القتال فلا سبيل للمرء إلى قتال من لا يقوى عليه ، وقد يقال (إنه من لا يعرف نفسه وعدوه ، وقاتل من لا يقوى عليه ، حمل نفسه على حتفها) والحازم لا يأمن عدوه على كل حال ، فإن كان بعيداً لم يأمن سطوته ، وإن كان مكثباً لم يأمن من وثبته ، وإن كان وحيداً لم يأمن من مكره . . . . . . وعندي من الرأي والحيلة غير القتال ما يكون فيه الفرج إن شاء الله تعالى : فإنه ربَّ قوم قد احتالوا بآرائهم حتى ظفروا بما أرادوا.
وإني أريد من الملك أن ينقرني على رؤوس الأشهاد ، وينتف ريشي وذنبي ، ثم يطرحني في أصل هذه الشجرة ، ويرتحل الملك هو وجنوده إلى مكان كذا . فأرجو أنّي أصبر وأطلع على أحوالهم ، ومواضع تحصينهم وأبوابهم ، فأخادعهم وآتي إليكم لنهجم عليهم ، ونلنا منهم غرضنا إن شاء الله تعالى .
ففعل الملك بالغراب ما ذكر ، ثم ارتحل عنه فجعل الغراب يئن ويهمس حتى رأته البوم وسمعته يئن ، فأخبرن ملكهن بذلك، فقصد نحوه ليسأله عن الغربان فلما دنا منه ؛ أمر بوماً أن يسأله فقال له : من أنت...؟ وأين الغربان...؟ فقال : أما اسمي ففلان ، وأما ما سألتني عنه فإني أحسبك ترى أن حالي حال من لا يعلم الأسرار ، فقيل لملك البوم : هذا وزير ملك الغربان وصاحب رأيه ، فنسأله بأي ذنب صنع به ما صنع...؟ فسئل الغراب عن أمره .
فقال : إن ملكنا استشار جماعتنا فيكنَّ ، وكنت يومئذٍ بمحضرٍ من الأمر ، فقال : أيها الغربان ، ما ترون في ذلك...؟ فقلت : أيها الملك لا طاقة لنا بقتال البوم : لأنهن أشد بطشاً ، وأحد قلباً منَّا ، ولكن أرى أن نلتمس الصلح ، ثم نبذل الفدية في ذلك ، فإن قبلت البوم ذلك منّا ، وإلا هربنا في البلاد . . . فإن القتال بيننا وبين البوم خيراً لهنّ وشراً لنا ، فالصلح أفضل من الخصومة ، وأمرتهنَّ بالرجوع عن الحرب ، وضربت لهن الأمثال في ذلك .
وقلت لهن : إن العدوّ الشديد لا يرد بأسه وغضبه مثل الخضوع له : ألا ترين إلى الحشيش كيف يسلم من عاصف الريح للينه وميله معها حيث مالت فعصينني في ذلك ، وزعمن أنهن يردن القتال ، وأتهمنني في ما قلت ، وقلنا إنك قد مالأت