كتب / عبدالله زغيب منذ بداية العمليات العسكرية الواسعة التي انخرطت فيها جماعة «انصار الله»، ارتكازاً الى تحرك 21 ايلول 2014 وما تلاه من سيطرة على صور الدولة المركزية كافة، كان الواضح الوحيد أن الحوثيين ليسوا نموذجاً مسقطاً على الواقع اليمني من ناحية القتال واساليبه، بل ان الجماعة اثبتت في معترك «العاصفة السعودية» انها مجرد «ميليشا يمنية أخرى»، برغم كل ما قيل عن تدريبات مكثفة تلقاها جنودها وقادتها من ضباط إيرانيين. لكنها كانت الميليشيا الاكثر قدرة على الحشد وتحريك كتائب مدرعة وسرايا مشاة، بل اصبح لديها جهاز خاص للدفاع الصاروخي، وهذا امر لم يكن مستغرباً في بلد تمتلك فيه غالبية القبائل بنيتها العسكرية الخاصة. الفارق الحوثي الوحيد كان في الكم، وفي القيادة المركزية واضحة المعالم. بالغ الحوثيون كثيراً في اختبار الأوزان. وهذه عادة «الشماليين» في تقييمهم لأي صراع مع طرف «جنوبي». فالحكاية كانت دوماً تنتهي «بنصر كاسح» لمصلحة صنعاء في كل «مناسبة» ينقسم فيها البلد على ذاته، او يمارس فعل الاقتتال في ظل انقسام ما قبل الارتباط العام 1990. بل ان الحكمة المتوارثة في المناطق الجنوبية، كانت دوماً تبني تصور الصراع المقبل على شاكلة «مظلومية ما بعد الهزيمة». وكأن الخسارة كانت حتمية وطبيعية، نظراً لفارق القوة الهائل بين الطرفين على المستويات كافة وفي العدة والعتاد. بل ان الاحساس الدائم بقرب الهزيمة، دفع القيادة في عدن للقبول بالوحدة مع الشمال بعد انهيار الحليف السوفياتي. وبرغم كل هذا، حافظ الحوثي على الموروث «الشعبي» أو القناعة الظرفية القائمة هذه، وعليها تحرك في كل اتجاهات الأرض اليمنية. قبل أن يتراجع عدد الجبهات الى نحو خمسين، نشر عبدالملك الحوثي مع حليفه علي عبدالله صالح جنوداً نظاميين وقوات شعبية على أكثر من ثلاثمئة ساحة قتال، انطلق فيها عمل «الائتلاف العسكري» المستجدّ هذا على قاعدة بسيطة، إغراق الجبهات بالعديد وكثافة النيران، وبالتالي إخضاع غالبية المديريات في مدة زمنية بسيطة نسبيا. وبدا هذا التحرك أو «الاستراتيجية» نمطياً في الحروب الداخلية اليمنية، بناء على خبرة الرئيس السابق وحليف الحوثيين في قتال «القاعدة» والجنوبيين والقبائل، بل الحوثيين أنفسهم، خاصة أن الطرف الآخر كان عبارة عن مجموعات استنزاف صغيرة تتوزّع على قراها وأحيائها، وتلعب مع القادمين من الشمال لعبة «الضرب والهرب» القديمة، والأكثر أماناً في مثل هذا الفارق القائم في الاوزان. وهذا ما حصل فعلا. فالحوثيون والجيش اليمني تمكنوا من السيطرة على عدن وجوارها وعلى غالبية الاماكن المأهولة الأساسية في المحافظات الجنوبية باستثناء حضرموت. الغائب الأساسي عن تقدير الحوثيين كان الحكمة العسكرية الاكثر تدريساً في الاكاديميات الحربية الدولية، وفيها يقول فيلسوف الحرب صان تزو إن «الأرض تشمل المسافات العظيمة والصغيرة؛ الخطر والأمان؛ الأرض المفتوحة والممرات الضيقة؛ وفرص الحياة والموت». وحتى قبل الخوض في أثر الحرب الجوية السعودية على اليمن ودورها في إعادة صياغة الواقع العسكري، فإن مجرد انتشار الجيش اليمني وحلفائه على هذه البقعة الواسعة «غير الضرورية» بمعظمها، كان مقدمة لما هو قادم. فالطرف الآخر مارس الطبيعي في مثل هذه الظروف، حيث كانت الآلاف القادمة من الشمال، تواجه بعشرات المقاتلين غير النظاميين، العاملين على مبدأ الاستنزاف، والضرب الدائم، ثم الاختباء. وفي هذا إشغال للقوات ومنعها من إعادة التجمّع لتنظيم حملات واسعة أكثر نجاعة في مثل هذه الحالات. وهكذا كان لبضع العشرات من المقاتلين هؤلاء وزن في الميدان مشابه لوزن الكتائب والالوية المجهزة جيداً، خاصة من ناحية تحويلها الى قوات متخصصة بالجبهات التي تنتشر عليها، وقوات عاجزة بالتالي عن ممارسة الحرية التكتيكية في التجمع وإعادة الانتشار، وهذا ما يُسمّى في العلم العسكري ب «تعطيل الجيوش». دخول السعودية على خطّ المواجهات كان أمراً حاسماً. وبمعزل عن الأبعاد السياسية والاجتماعية والوطنية التي ساهمت عضلة الرياض العسكرية في تعقيدها، فإن للانخراط الخارجي هذا وزناً في الميدان لم يكن بالإمكان تجاهله، بل كان من الواجب التعاطي معه بجدية وانضباط كافيين. وفيما أصرّ كثيرون في صفوف «الآلة الإعلامية» الحوثية على تصوير عشرات الطائرات وآلاف الطلعات الجوية على أنها أعمال لا تحظى الا بوزن «جانبي» في البعد العسكري للأزمة، كانت هذه العملية تشق الطريق بشكل شبه يومي نحو النتيجة الحالية للصراع المنفصلة عن أي تخريجة قادمة من مسقط، وسط «بيئة» الحوار القائمة اليوم. فور انطلاق عملياتها العسكرية، اعتمدت السعودية على بنية قوية للاستطلاع كانت قد نشرت قبل أسابيع من بدء الغارات الجوية، وتمكّنت القوات المجوقلة هذه من تجنيد عشرات الجنود السابقين في مدن عدة، لتأدية دور ضابط الارتباط بين قيادة القوات الجوية ل «عاصفة الحزم» وغرف القيادة المتنوّعة للمقاتلين المنتشرين في المدن والقرى، وبالتالي تحويل جزء أساسي من المجهود العسكري الجوي نحو انخراط كامل في الحرب البرية والتحول الى قوة أسناد جوي. وهكذا تمكّنت ميليشيات الحراك الجنوبي والتشكيلات المقاتلة الأخرى في عدن والضالع ولحج من تدمير الالوية الميكانيكية التابعة للحوثيين والجيش اليمني والمتواجدة داخل هذه المناطق، ما مكّنها من تجميع قواتها في حيز زمني مقبول، ووسط تراجع ملحوظ في كثافة النيران الحوثية، والتحوّل تباعاً الى مجموعات وسرايا، ومن ثم كتائب مشاة منظمة جيداً، تمكّنت من إدارة حرب مضادة في اماكن تواجدها. وعلى الجانب الآخر، وتحت كثافة هائلة من الضربات الجوية، ومع حصول الميليشيات المناوئة للحوثيين على دبابات فرنسية حديثة من طراز «الأي أم أكس 56 لوكلير»، وفي بعض الأحيان مع طاقم «خليجي» جاهز، لم يتمكن الحوثيون سوى من منع القوات المتشكلة حديثاً هذه من التحول الى قوة مهاجمة، عبر تضييق الخناق على اسوار المدن الرئيسية في المحافظات الجنوبية. ومع اقتراب انتهاء العام الأول للانقلاب الحوثي، كما تسميه ديبلوماسية «عاصفة الحزم»، أظهر «انصار الله» رغبة في تغيير النهج العسكري، وبالتالي محاولة لاستعادة زمام المبادرة، حيث تمكّنت الجماعة ربما من استيعاب الدرس في عدن، والذي يقوم على مبدأ أساسي مفاده ان فارق العدة والعتاد والغلبة العددية وحده غير كافٍ في حسم المعارك التي تتداخل فيها الأبعاد الوطنية بصعوبة الميدان وطبيعة الارض، خاصة تلك التي تدير فيها غرفة تحكم واحدة مجموعات تتوزع داخل منطقة عمليات فيها مدينة وصحراء وجبل، فيما الخصم تحوّل مع الوقت الى قوة شبه نظامية مدعومة بإسناد جوي كثيف. المراجعة الميدانية السريعة هذه أفضت إلى تغيير أساسي في ادارة العمليات لدى الحوثيين، مع تبدّل جذري في الخلفية النفسية للقيادة، وانتقالها من حالة الإفراط في الإحساس بفارق القوة، الى الخشية من خسارة مناطق الجنوب كافة والانكفاء الى خط الحدود السابق بين اليمنين قبل الوحدة، حيث بدأ الجيش اليمني وحليفه الحوثي باعتماد تكتيك التراجع والسيطرة بالنار على طرق الإمداد الرئيسية والمعابر الطبيعية وغير الطبيعية بين المناطق، ومن ثم الدفع بمجموعات مضادة للدروع إلى داخل مناطق الخصم، وهذا ما حصل في 11 آب الجاري للمرة الأولى منذ انطلاق النسخة الجديدة من الحرب الأهلية اليمنية، عندما كمنت قوات مجهّزة بصواريخ كورنيت الروسية «صاحبة الشهرة الشرق أوسطية»، لكتيبة دبابات كاملة في منطقة كرش في محافظة لحج واستهدفت عدداً من آلياتها، وكذلك في «معسكر النصر» في خور مكسر في عدن، وعلى طريق العام بين عدنوأبين وداخل أبين نفسها. لا شك في أن للمتغيرات الحالية في الواقع العسكري للصراع دوراً أساسياً في ليونة وقسوة الاطراف على طاولة الحوار، لكن أمراً أساسياً آخر اصبح أكثر الحاحاً، يكمن في الامتداد الخارجي للصراع، وهنا ليس المقصود فقط قياس وزن الكورنيت الروسي القادم من جهة «ممانعة» مجهولة في مقابل القذائف الأميركية التي تسقط على أحياء صنعاء وصعدة يومياً عبر جهة معلومة. فهذه الصورة تخدم ربما الرأي المستبعَد للعامل اليمني في الصراع، وهو الأساسي السابق لكل التشعبات الخارجية ومنظومات المصالح الاستراتيجية المتشابكة في السماء اليمنية. الأمر الملح الآخر هو في تمدد الأزمة نحو الخارج. ففي ظل غياب الحل الجذري، تبدو استراتيجية الحوثي القادمة هي «جيزان مقابل عدن»، في ظل غياب الخيارات الأخرى، باستثناء الخيارات «غير العاقلة» كإغلاق مضيق باب المندب مثلاً. فالواضح أن بإمكان «انصار الله» والجيش اليمني تصعيد الصراع الحدودي الى مستويات غير مسبوقة، متجاوزة صاروخاً او اثنين في اليوم، مع إظهار القوات البرية السعودية عجزاً غير مفهوم برغم فارق القوة، عن تأمين مناطقها. وقبل ذلك تأمين ثكناتها الحدودية.