وصف الفيلسوف الشهير (ناعوم تشومسكي) نظرية المؤامرة بأنها: (ما يقوله بعض الناس إذا كانوا لا يريدون لك أن تفكر في ما يجري في الواقع) وعرفها المفكر العربي المعروف د.عزمي بشارة بأنها (تفكير أسطوري يرى خلف كل فعل إنساني مؤامرة خفية، يحيكها عدو شيطاني قادر على كل شيء. وهي تقي من النقد الذاتي، مثلما تحجب الواقع والدوافع والأهداف القائمة عند الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، من دول وأفراد وجماعات، بما في ذلك الافتراضات الخاطئة والأيديولوجيات والعقائد التي تحرك فعل البشر. وهي نفسها التي تمنع اكتشاف المؤامرات، أي التخطيط المنطلق من مصالح ودوافع محددة من أجل غايات حقيقية). (أحجار على رقعة الشطرنج) (بروتوكولات حكماء صهيون) كتب ذاع صيتها, وتعاظم انتشارها, بشكل ملحوظ وواضح لربما بسبب اعتمادها على ركيزة المؤامرة المزعومة, فتستهوي الكثيرين, وتوافق أمزجتهم, وتمثل (بلسم) لجراحهم الغائرة والمستفحلة, وعلاج جيد لمتناقضات بمتناقضات أخرى تلامس هوسهم المتنكر بعباءة الخرافة والأسطورة, ومثل تلك الاطروحات لا تحتاج لنقد عقلاني لأنها قائمة على (أسطورة نظرية المؤامرة) وهي ليست نظرية في حقيقة الأمر بل أسطورة, والأسطورة لا تحتاج لنقد عقلاني أو علمي لأنها أسطورة وليست نظرية علمية, وأيضا الأسطورة لا يمكن دحضها أو إثبات صحتها, والمؤمن بها لا يراها إلا من خلف ستار الوقائع والظروف الماثلة والحقيقية لوقوعها, وما نحتاجه بالفعل هو نقد الفكرة برمتها سواءا بالاسلوب العلمي أو العقلاني. وفي كتابه (دوائر الإعادة)-وهو نموذج جيد لمعظم كتبه- وقع أيضا مؤلف الكتاب (الحبيب) ابوبكر المشهور في فخ المؤامرة ولم يستطع الإفلات منها, واعتمد ربع كتابه الأخير على فكرة استلهام واستدعاء (نظرية المؤامرة) وقد تحدث عن ذلك صراحة حين قال (إنها مؤامرة بكل المقاييس, ولكن الضحايا لا يعلمون عن هذه المؤامرة شيئا ما سوى التصفيق والتأييد لحملة القصعة الدسمة, وراء الحصول على فتاتها المتناثر) ص74, كذلك من خلال الاطلاع والقراءة يمكننا-ببساطة متناهية- استنتاج وتذوق سموم المؤامرة (تفكير المؤامرة) من بين السطور والجمل في معظم مؤلفاته. لكن دعني أقول بالمجمل هي إحدى مآزق وأزمات الخطاب الديني الشائع اليوم, والتي ليست سوى نتاج وعي متصاعد ومتضخم, يفسر حالة (النكوص) الحضاري, و(الغثاء) المعرفي المستفحل. ربما النقطة المشتركة والتي تتميز بها تلك الكتب والمراجع (ومثلها كثير) والتي تتكئ على المؤامرة (تفكير المؤامرة) هي عزوفها الواضح عن التحليل العلمي التجريبي, ومجانبتها للأبعاد الثقافية والاجتماعية والنفسية والسياسية.....الخ للمشكلة أو القضية, وهذا يشكل لب الإشكالية والخطورة, بما يعني ارتباطها المباشر برفض العلم والمعرفة. ووفق بحث نشر في مجلة علم النفس ( science psychological) يحقق في العلاقة بين قبول العلم وبين أنماط التفكير المؤامراتي, وجدت النتائج أن الاعتقاد بنظريات مؤامراتية متعددة يتنبأ بشكل ملحوظ برفض استنتاجات علمية هامة, فيصبح العامة غير مبالين بالمواضيع الاجتماعية والسياسية والثقافية. وتفكير المؤامرة في حد ذاته مريح يعفي من صداع التحليل العلمي الرصين, ومن آلام مواجهة الذات, ويصبح كشماعة يلقى عليها إخفاقات الأمة العربية والإسلامية وأسباب تخلفها وتكالب الأمم عليها. والإسلام أمرنا بالعلم والمعرفة وأتى ليحررنا من قيود الأبوية والإتباع والاستتباع (اللاواعي), ويدحض مخلفات الجاهلية المرادفة للتفكير (الغير سوي), والمقيد بخيوط (عنكبوتية) واهية, وغير منهجية.... وفي حقيقة الأمر الركون إلى مفهوم المؤامرة أو نظرية المؤامرة هو احتباس حضاري وعلمي, ينسحب على كافة المجالات (الاقتصادية, والاجتماعية, والتشريعية, والسياسية.....) وهي بذلك مخاتلة يائسة لفك طلاسم تخلفنا (المعهود), وذلك بإرفاقه بمعطيات (واهمة) تشي إلى هروب إدراكي/عقلي (واضح), وتنكر علمي/معرفي متوازي مع حالة (الانبطاح) الحضاري. إنها (كارثة معرفية) بالفعل تكمن خطورتها في تشكيل تبلد وتصحر معرفي على المستوى الجماهيري, وخلق وعي زائف وثقافة (لاواعية) ستؤدي حتما إلى تشكيل (نماذج قطعانية), وجماهير (مستغفلة) و(عفوية), تتحرك خلف شعارات (رومانسية), وأطروحات (خاوية) المضمون, وأسطورية المعنى. وقد يجد ذلك التفكير المؤامراتي رواجا كبيرا في مجتمعات متعطشة لفهم حوادث وتقلبات طارئة وعصية على الفهم, ومن خلاله يتم صناعة أبطال ورموز في ذات المجال, ويختلف ذلك من مجتمع إلى آخر, وبنسب متفاوتة تختلف درجة القبول والرواج, حسب درجة حداثته وتطوره, وميوله المعرفي...وفي مجتمعنا العربي ربما يأتي شيوع ورواج المؤامرة من زاوية أنهم في حالة ضعف وتخلف وقد كانوا إمبراطورية عظمى, وهو ما يطلق عليه (التنافر المعرفي) dissonance cognitive في علم النفس, وهو أن تكون هناك فكرتان متناقضتان, وكبشر يزعجنا التناقض ونضطر الهروب من هذا التناقض ونتبنى تفسيرات ساذجة (نظرية المؤامرة) تريح عقولنا وتبعد كاهل التناقض من على ظهورنا. ما نحتاجه اليوم هو الخروج من عقدة المؤامرة, والإقبال على المنهج العلمي (التجريبي الاستنباطي) للوقوف على أسباب تراجعنا الحضاري والمعرفي, بكل ما يتعلق بالسياسة والاجتماع والاقتصاد وكافة المجالات العلمية.... والاهتمام بالمعرفة والعلم كسبيل للحاق بركب الحضارة وعصر النانو والايباد, وتكنولوجيا الذرة والبروتون, والمشاركة الفاعلة في الحضارة الإنسانية, لتحقيق توازنات علمية وسياسية تقف في وجه من يحاول العبث بمقدرات وثروات وثوابت الوطن والأمة.