المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية كتب السفير د. عزمي خليفة هل يسير التاريخ في اتجاهه للإمام؟ أم أنه يتحرك في شكل حلزوني ليكرر الأحداث كل فترة، حتى وإن كان يكررها تارة في شكل مأساة، وتارة أخرى في شكل ملهاة؟.هذا التساؤل شغل عددًا من المفكرين عبر التاريخ، ولكنه اكتسب بُعدًا خاصًّا مؤخرًا نتيجة ثورات الربيع العربي التي استدعت للذاكرة فكرةَ سلاسل الثورات في العالم، لاستجلاء القوانين الحاكمة لهذه السلاسل من الثورات ، ونتيجة عودة الإرهاب لاستهداف الدبلوماسيين والبعثات الدبلوماسية من خلال اغتيال القنصل الأمريكي في بنغازي بليبيا، ومن قبله اغتيال دبلوماسي جزائري في مالي التي أضحت معقلًا للقاعدة في المغرب العربي وشمال إفريقيا إلى جانب ليبيا والجزائر. بدايةً، من المستبعد الأخذ بوجهة النظر التي ترى أن التاريخ يسير في شكل حلزوني لأن تكرار الأحداث -وإن تشابهت- لا يلغي تطور الخبرة الإنسانية في أسلوب التعامل معها، كما أنه لا يلغي أيضًا تطور الزمن نفسه، وما يطرأ عليه من تغييرات تكنولوجية وعلمية تغير من جوهر الحدث، فالمرء لا يمكنه الاستحمام في نهر واحد مرتين؛ وإلا فإننا نحكم على الحاضر والمستقبل بمرجعية الماضي، وهو ما ينطبق على الموجة الحالية من الاحتجاجات الجماهيرية والإرهاب الموجه إلى الدبلوماسيين والبعثات الأمريكية، فالعالم قد تغير عن الثمانينيات، والمعالجة أيضًا ستتغير عن ذي قبل. أولًا: التاريخ وأحداث العنف ضد الدبلوماسيين: رغم أن تركيز الاحتجاجات الجماهيرية والإرهاب ممثلا في القاعدة على البعثات الدبلوماسية الأمريكية في مجمل دول الشرق الأوسط ردًّا على الفيلم المسيء للرسول الكريم والذي أنتج وصور في الولاياتالمتحدة بمشاركة من بعض المسيحيين المصريين بالمهجر؛ إلا أن من المهم الإشارة إلى أمرين هامين: الأول: أن العنف كظاهرة موجهة ضد الدبلوماسيين والبعثات الدبلوماسية ليس بظاهرة جديدة؛ فقد سبق وانتشرت الظاهرة في عصر الحرب الباردة؛ أي في نهاية عقد الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، وقامت بها منظمات متطرفة في أيديولوجيتها اليمينية واليسارية على السواء، وإن اتفقت على مهاجمة دبلوماسيي وبعثات الغرب، احتجاجًا على سياسات بعض دوله، ومن هذه الأحداث اغتيال السفير الفرنسي ثم ملحق إداري للسفارة الفرنسية في بيروت عام 1982 في حادثتين منفصلتين، واغتيال مسئولين أتراك في لوس أنجلوس وبوسطن وجرح ثالث في أوتاوا، واغتيال الملحق العسكري الأمريكي في باريس عام 1982 بعد عدة أشهر من نجاة القائم بالأعمال الأمريكي من محاولة اغتياله. هذه الموجة من الإرهاب شملت أيضًا عددًا من الدبلوماسيين المصريين مثل انفجار سيارة مفخخة أسفل منزل سكرتير ثاني السفارة ببيروت حمدي لوزا، وإصابة السفارة بصاروخ، والعنف الذي أصاب السفارة في أوغندا وأدى إلى نهب منازل بعض الدبلوماسيين المصريين، وأحداث العنف التي شملت بعض الدول الإفريقية وانعكست سلبًا من الناحية الأمنية على عددٍ من الدبلوماسيين المصريين والبعثات الدبلوماسية إلى درجة وفاة عدد من الدبلوماسيين المصريين مثل السفير صلاح الدين كمال في الصومال، والسكرتير ثاني أحمد نمير خليل في باكستان، وأخيرًا السفير إيهاب الشريف في العراق. الثاني: أن الجديد في ظاهرة العنف الموجه ضد الدبلوماسيين والبعثات الدبلوماسية يتمثل في ازدياد عدد هذه الأحداث، وخطورة ما تؤدي إليه من تبعات ونتائج، مما يؤدي إلى تغييرات في طبيعة العمل الدبلوماسي تؤثر سلبًا على جوهر الوظيفة الدبلوماسية. فمن ناحية تطور عدد الحوادث الإرهابية ضد الدبلوماسيين والبعثات الدبلوماسية، يمكن الاشارة إلى بعض المؤشرات التي تأتي في مقدمتها: 1- كان عدد هذه الأحداث عام 1970 قد وصل إلى 213 حادثا شمل دبلوماسيين من 31 دولة، ووصل عام 1980 إلى 409 حوادث ضد دبلوماسيين من 60 دولة. 2- زادت نسبة الأحداث الإرهابية الموجهة للدبلوماسيين من مجمل أحداث الإرهاب من 30٪ عام 1975 إلى 54٪ عام 1980. 3- ما بين الفترة 1968 إلى 1982 قتل 381 دبلوماسيا، وجرح 824 آخر في أحداث إرهابية حول العالم. 4- أن عدد الدول التي فقدت ضحايا دبلوماسيين وصل عام 1982 إلى 108 دول. أما من ناحية تطور نوعية العمليات الاحتجاجية والإرهابية التي وجهت ضد الدبلوماسيين ومؤسساتهم فإنها تتطور بتطور التكنولوجيا والتقدم العلمي، ولذا فإن العمليات الحديثة تستند إلى قوةٍ تدميريةٍ ودقة تصويب أكبر، فعمليات 11 سبتمبر 2011 ما كان يمكنها النجاح بنفس الدرجة قبل ظهور الكمبيوتر وانتشاره وما طرحه من تطبيقات للاتصال السريع منخفض التكاليف، والبعيد عن الرقابة، وحادث احتجاز الرهائن الأمريكيين في طهران ما كان يمكن أن ينجح بنفس الدرجة لولا تطور الإرسال التلفزيوني عبر القارات، وهو ما أدى إلى زيادة عمليات اقتحام السفارات، واحتجاز رهائن بنسبة 50٪ خلال العامين التاليين. ثانيًا: ملامح الموجة الجديدة من العنف ضد الدبلوماسيين الموجة الحالية من الهجمات الإرهابية والاحتجاجات الجماهيرية بدأت في ظل أوضاع مختلفة عن تلك التي سادت في ظل الموجة السابقة والتي يمكن إجمال أهم ملامحها فيما يلي: 1- أن التحولات الدولية الحالية تتسم بالسرعة الفائقة التي تجعلها أقرب إلى السيولة، وهو ما جعل البعض يصف النظام الدولي بالأحادية القطبية، في حين وصفه البعض باللا قطبية، بينما وصفه آخرون بالتعدد القطبي، وإن كان التصور الأقرب هو النظام الشبكي القائم على اختلاف التحالفات باختلاف بنود الأجندة الدولية مع تبادل المصالح.كما أن هذه التحولات تتسم بالشمول والعمق والفجائية؛ فلم يتصور أحد عام 1990 انهيارَ الاتحاد السوفيتي، كما لم يتصور أحدٌ في مطلع عام 1989 اجتياح الجماهير لسور برلين في غضون أشهر، وهي تغييرات أدت إلى نتائج غاية في الأهمية. 2- أن التحولات الإقليمية في الشرق الأوسط لم تكن أقل أهمية عن مثيلاتها الدولية؛ فلم يتصور أحد أن رياح الربيع العربي ستهب من تونس نتيجة إهانة مواطن شاب على يد شرطية، كما لم يتصور أحد أن يسقط نظام مبارك في مصر خلال 18 يوما، وإن كانت الدلائل قد رجحت إحداث تغييرات هامة بالنظام باختفاء الشرطة يوم 28 يناير، وأكدت زواله بعد معركة الجمل في 2 فبراير عام 2011. 3- أن البيئة السياسية تغيرت تمامًا في الشرق الأوسط، فالتيارات الإسلامية -وعلى رأسها الإخوان، والتي كانت مطاردة من السلطة وقابعة في السجون- أضحت تتولى السلطة، وثبت خواء وضعف تنظيمات التيارات الليبرالية، وتأكد أن الحركات الشبابية تفتقد إلى القيادة والخبرة السياسية. 4- أن تغيير البيئة السياسية في الشرق الأوسط أدى إلى تغيير الخريطة الإستراتيجية التي تعكس جوهر التحالفات السياسية، وقد عكس هذا التغيير مؤشراتٍ عديدةً مثل التأرجح الخليجي تجاه مصر، وتوتر العلاقات المصرية الإماراتية نتيجة تصريحات قائد شرطة دبي ضاحي خلفان، والحذر السعودي في التعامل مع مصر، وزيارة الرئيس مرسي لإيران، وتأرجح القرار المصري بشأن زيارة الرئيس مرسي للولايات المتحدة. 5- الخلل الذي أصاب التنظيمات الجهادية الإسلامية التي انتشرت بالشرق الأوسط فور انطلاق نسمات الربيع العربي. فالقاعدة أصابها قدرٌ من الضعف نتيجة اغتيال زعيمها أسامة بن لادن؛ غير أنها سرعان ما عوضته بالأخذ بنظام اللا مركزية في التخطيط والتنفيذ والتجنيد والتمويل، وإنشاء خلايا عنقودية مغلقة على نفسها، وهو ما مكنها من إنشاء تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في اليمن، مواجهٍ لتنظيم شرق إفريقيا في الصومال، وتنظيم القاعدة للمغرب العربي وشمال إفريقيا، وفتح جبهة جديدة في العراق وسوريا بمنطقة الشام. في ظل هذه التغييرات الدولية والإقليمية؛ بدأت الموجة الجديدة من الاحتجاجات الجماهيرية وأعمال الإرهاب التي راح ضحيتها القنصل الأمريكي في بنغازي ردًّا على الفيلم المسيء للرسول الكريم، وهي سلوكيات جعلت العمل الدبلوماسي من الأعمال التي تتسم بالخطورة العالية، وخاصة في ظل تحوله من عمل مكتبي داخل الأبراج العاجية إلى العمل المجتمعي الثقافي المفتوح، وهو ما يطرح تساؤلًا حول الأسلوب الأمثل لمواجهة هذه المخاطر. ثالثًا: مواجهة العنف ضد الدبلوماسيين في المستقبل لقد تم الجمعُ بين عملين مختلفين هما الاحتجاجات الجماهيرية، وهو سلوك مشروع في ظل ضوابط قانونية الخروج عليها يعرض المحتج للمساءلة القانونية، وبين أعمال الإرهاب المدانة محليًّا ودوليًّا، والجامع بينهما هو التأثير السلبي على العمل الدبلوماسي؛ إلا أن من المهم للتعرف على الاتجاهات المستقبلية التي تحكم الإرهاب والاحتجاجات الجماهيرية أن نفصل بينهما. فمن المؤكد أن الإرهاب في كل أشكاله مدانٌ، أما الاحتجاجات الجماهيرية ضد الدبلوماسيين ومؤسساتهم فإنها تخضع لنوعين من القوانين، هما القوانين المحلية التي تنظم التعبير عن الرأي والتظاهر، أما النوع الثاني من القوانين فهي القوانين الدولية التي تعارف عليها المجتمع الدولي لحماية الدبلوماسيين والبعثات الدبلوماسية، والتي لم تكن متكاملة خلال الموجة الأولى في السبعينيات والثمانينيات والتي يمكن حصرها جميعا فيما يلي: 1- اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية عام 1961 والتي تنص في مادتها الثانية والعشرين على حرمة مباني البعثة الدبلوماسية، ومن ثم عدم أحقية سلطات الدولة المضيفة دخول هذه المباني -في الأحوال العادية- إلا بإذن من رئيس البعثة، كما تلزم هذه المادة الدولة المضيفة بالعمل على حماية البعثة ضد أي اعتداء، أو ضرر، أو ما يحط من كرامتها، كما أن المادة 24 من نفس الاتفاقية تؤكد حرمة أرشيف ووثائق البعثة أينما كانت. 2- اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية عام 1963 التي تنص في مادتها الحادية والثلاثين على حرمة مباني البعثة القنصلية، وعدم أحقية سلطات الدولة المضيفة في دخول هذا المباني إلا بإذن من رئيس البعثة، كما نصت صراحة في الفقرة 3 من نفس المادة على إلزام الدولة المضيفة بحمايتها ضد أي اعتداء أو ضرر أو ما يعكر صفوها أو المس بكرامتها، وهو نص صريح ينطبق على المظاهرات، كما تنص المادة 33 من الاتفاقية على حماية أرشيف ومكتبات القنصلية. 3- اتفاقية منع الجرائم المرتكبة ضد الاشخاص المتمتعين بحماية دولية، بمن فيهم الموظفون الدبلوماسيون، والمعاقبة عليها لعام 1973 والتي تستند إلى مبدأ إما محاكمة أو تسليم الشخص الذي ارتكب خطأ جسيمًا ضد الدبلوماسيين أو ضد أشخاص يتمتعون بالحماية الدولية (مادة 7)، ويتعين على الدول تحديد الولاية على الجرائم المنصوص عليها في المادة الثانية، وتنص المادتان 4 و5 من الاتفاقية على تعاون الدول في مجال منع الجرائم وتبادل المعلومات. 4- في ضوء استمرار خرق اتفاقية فيينا عام 1961 وعام 1963 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 168/35 عام 1980 الخاص بإجراءات رصد للحوادث ضد السفارات والموظفين الدبلوماسيين، وهو ما استغلته الدول المختلفة لتحقيق هدفين؛ أولهما تسجيل الخروقات ضد بعثاتها الدبلوماسية وموظفيها الدبلوماسيين بالخارج، وثانيهما تقديم معلومات عن حوادث وقعت في أراضيها ضد البعثات الدبلوماسية الأجنبية وأعضائها، سواء أكانت هذا الأحداث قد تم تسجيلها أم لا من قبل الدولة المعنية ذاتها. هذه الوثائق إذا ما تم استخدامها بأسلوب متكامل يمكن أن توقع أضرارًا بالغة على الدول التي تعجز عن حماية البعثات الدبلوماسية على أراضيها، وهو ما ينبغي التحسب له من ناحية، وهو ما يمكن أن يفسر -ولو جزئيًّا- تحرك بعض قطع الأسطول الأمريكي تجاه ليبيا في الآونة الأخيرة، وكذا تصريح الرئيس الأمريكي أوباما بأن مصر لم تعد دولة حليفة ولا عدوة، وتصريحه بضرورة التزام مصر بحماية البعثات الدبلوماسية الأمريكية والدبلوماسيين، وقرار إرسال مشاة البحرية الأمريكية لحماية مقر السفارة الأمريكية بالخرطوم، فكلها مؤشرات على تغيير الرؤية لمهاجمة الدبلوماسيين والبعثات الدبلوماسية، والاتجاه نحو معالجة الموضوع بأسلوب مختلف، وهو ما يفرض على الحكومة المصرية التزاما بضرورة حماية البعثة الأمريكية في كل من القاهرة والإسكندرية، فالأمر قد خرج من إطار المجاملات والمعاملة بالمثل إلى إطار قانوني أكثر إلزامًا، مما يتطلب وضع حدٍّ للتحركات التي يقوم بها بعض أنصار تيار الإسلام السياسي التي تعكس التلاعب بالمشاعر الدينية للمحتجين، خاصة وأن الإسلام لم يأمرنا برد الإساءة بإساءة مثلها، ويكفي ما قام به الرئيس مرسي من تكليف السفارة المصرية في واشنطن باتخاذ الإجراءات القانونية. والخلاصة أننا أمام أزمة قد تتطور في اتجاه غير مأمون العواقب، وفقًا لإجراءات قانونية ارتضاها المجتمع الدولي، وما زالت الحكومة المصرية وحكومات دول الربيع العربي خاصة وباقي حكومات دول الشرق الأوسط عامة غير مدركة لجوهر التغييرات التي طرأت عليها، وما زالت مستمرة في خلط الدين بالسياسة، والذي يمكن أن يؤدي مستقبلا إلى عواقب هي في غنًى عنها في المرحلة الحالية التي تتسم بالهشاشة وضعف قبضة السلطة على مقدرات الدولة، وخاصة في المجال الأمني بمعناه المجتمعي