التنوع المذهبي في أي مجتمع لا يكتسب أهمية إلا إذا ترتب عليه صراع حول السلطة وتحقيق أغراض سياسية في إطارات براغماتية متداخلة, وقد أدرك ابن خلدون من زمن سابق ذلك التأثير البالغ في مقارباته الكثيرة للمجتمع العربي حين قال: "فان العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الولاية". ويجب هنا التفريق بين مفهومي الطوائف والطائفية, فالأول يدل على المعتقدات والممارسات الدينية, أما الثاني والذي نحن بصدده فهو استخدام هذا التنوع لتحقيق أغراض سياسية دنيوية وهي كمفهوم حديث إنتاج الأصوليات الإسلامية. وقد أصبح في الآونة الأخيرة ذلك الصراع يأخذ طابعا أكثر انتشارا ووضوحا على المستوى السياسي في الكثير من الأقطار العربية. وعند الحديث حول تأثير الطائفة السياسية في إطار المشهد اليمني المعاصر يجب أن نأخذه في سياقين مختلفين, أحدهما نشأ في الشمال وكان تأثير الطائفة السياسية فيه واضحا ومؤثرا وقد لعبت الزيدية السياسية دورا مهما ومحوريا فيه قبل سقوط نظام الإمامة, وظل تأثيرها ملحوظا وذا طابعا مختلفا ما بعد سقوط نظام الإمامة عام 1962 في إطار التوازنات السياسية, أو حتى في إطار التحشيد والجمهرة, ونتج عن تلك المعمعة خطابا سياسيا طائفيا وبمشاركة مباشرة من رجال الدين الذين أسهموا بشكل مباشر في أزمات الصراع السياسي وأْثروا في مجريات أحداثه. أما الحالة الأخرى فقد نشأت في الجنوب وهي مختلفة تماما ولم يكن للطائفة السياسية فيها أي تأثير يذكر بل نشأ ما بعد الاستقلال 1967 نظام علماني يساري أيديولوجي ولم يحمل أي صبغة طائفية, وقد تحدثت حوله في مقال لي سابق بعنوان (حول تجربة اليسار الاشتراكي في جنوباليمن). ما بعد حرب العام 1994 التي أنهت تأثير الطرف الجنوبي (الأكثر مدنية) من على الساحة السياسية, توسع وتمدد تأثير الطائفة السياسية في الجنوب والشمال في إطار الجمهورية اليمنية, وبدعم من نظام المخلوع "صالح" برز تأثير الإخوان المسلمين (حزب التجمع اليمني للإصلاح) كطرف أساسي مؤثر في ذات الإطار, والذي يحسب كتيار مؤثر ضمن طائفة معينة, وهو حزب سياسي قدم تياره الديني خطابا طائفيا ضد مختلف الطوائف الأخرى والأحزاب اليسارية خاصة الحزب الاشتراكي في الجنوب إبان حرب 1994, والفتوى الشهيرة الصادرة آنذاك من أحد القيادات الدينية البارزة لحزب الإصلاح خير شاهد على ذلك. وفي ذات الإطار السياسي المتخلف والقبلي تم أيضا إنشاء مجموعة (الشباب المؤمن) في العام 1990 الذي كان نواة تأسيسية وإعادة إحياء للزيدية السياسية ما بعد الوحدة والتي أصبحت فيما بعد يطلق عليها اسم (الحوثيون), وقد دخل النظام اليمني في ستة حروب ضدهم مثيرة للجدل توجت بتمددهم عسكريا واستحواذهم على السلطة السياسية في اليمن بالتحالف مع المخلوع (صالح) في سبتمبر من العام 2014. والحركة الحوثية هي حركة رجعية قروسطية تؤمن بولاية البطنين, وترى بأحقيتهم في السلطة, وتعتمد أطروحاتها على إقحام "الديني" في "السياسي" وتأتي أيضا كرد فعل على توغل المذهب السلفي في المساحة الجغرافية الزيدية وقد دعم الحاكم السياسي آنذاك نشوئهم ليأتي ضمن إطار خلق توازنات سياسية وضرب بعض الفاعلين السياسيين ببعضهم (اللعب على رؤوس الثعابين). وتكمن خطورة بروز الطائفية السياسية في دخولها المباشر في أتون صراع الهويات ما قبل الوطنية, والعمل على نخر وتآكل الهوية الوطنية ومفهوم الدولة في الوجدان الشعبي العام, وتصاعد وتيرتها يهدد بقاء وكينونة الدولة ويعيق بشكل واضح قيام الهوية الوطنية الصلبة. وهو بالتأكيد ناتج عن تعثر المشروع الوطني والخطاب الحداثي الديمقراطي وضعف المدنية والدخول في أتون الفساد والمحسوبية والتسلط والاستبداد. والطائفة السياسية تنشأ غالبا كنمط هيمنة واستحواذ لتمزيق الهوية الوطنية وهي تأتي كردة فعل للفشل السياسي والعجز التاريخي في تشكيل دولة حديثة, بنية اقتصاد, اجتماع بشري وتنمية اجتماعية. وجود هذه الأرضية يؤدي إلى بروز الطائفة السياسة في الحقل السياسي والاجتماعي ومن ثم تتحول إلى عنف طائفي يعيد إنتاج نفسه كلما استمر وجود الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحفزة لبقائه. وفي مقال له سابق اعتبر المفكر العربي/ عزمي بشارة: أن الحركات السياسية الإسلامية مثل حزب الله, وحركة الإخوان المسلمون, والحركات السلفية المختلفة, وحزب الدعوة الشيعي العراقي, والحركة الحوثية هي ضمن إطار الطائفة السياسية. ولمقاربة مفهوم الطائفة السياسية يمكننا تعريفها كالتالي: توظيف الدين من منطلق طائفي لأغراض سياسية دنيوية, وقد لا يكون ذلك التوظيف يصب بالضرورة في مصلحة الطائفة, وهي أيضا نمط من التحيزات السياسية بغطاء مذهبي أو ديني.