عندما كتبت مقال "استراتيجية الاستقلال الناعم" في 22 أغسطس 2015 لم تكن المرة الأولى التي أتناول الموضوع فقد تناولته منذ 2010 في عدة مقالات وبحوث ، ولكن بلهجة أقل وضوحاً تحسباً للمزايدين ؛ فقيادة المزايدة الممجوجة كانت لكل رأي يخالفهم بالمرصاد ، ولكن بعد حرب 2015 واشتراك الحراك في الحرب تحت قيادة التحالف إلى حانب السلطة الشرعية التي هي في نظر الحراك جزء من الاستعمار أصبح من الممكن طرح مثل هذه الرؤى الخلافية . وفي رأيي أنَّ طرحها بعد الحرب بشكل مباشر ووضوح تام دفع الكثير من القيادات في الثورة الجنوبية للاندفاع إلى كراسي السلطة ، ودفع بأفراد المقاومة الحنوبية إلى الانخراط في السلك العسكري للسلطة ، وهذا يعني خروج الجنوبيين من الفكر الثوري الطوبجي إلى الفكر الثوري الديناميكي .
لكن الانتقال إلى الديناميكية صاحبه ضبابية وجهل بمقتضيات الانتقال ، وأمام هذه الجهالة ارتبك الجنوبيون في بعض مفاصل الانتقال ؛ على سبيل المثال "مشكلة الرواتب" حيث طالب الكثير من المنتسبين للجهاز الحكومي برواتب وامتيازات الوظيفة ، وأصبح هذا الأمر شغلهم الشاغل ، بل وأصبح مبرراً لترك الكثير منهم جهاز السلطة .
والسؤال ؛ هل منع الرواتب عنهم حالة عارضة أو عمل مخطط..؟
في رأيي لايوجد شيء عارض ؛ بل هو أمر مخطط له ؛ يعمل عليه الأحزاب النافذة في السلطة وخصوصاً المؤتمر والإصلاح ؛ فهم يعملون على منع الرواتب ومنع الإمكانيات كسياسة تطفيش لشباب الجنوب ، وسار معهم في الخطة جنوبيون مصابون بمرض المناطقية من حاشية الرئيس ، وتقريباً نجحت الخطة . . . والمؤسف أن التحالف يسايرهم في خططهم . بل الأسوأ من هذا وهو أن الوظائف مازالت خاضعة للمحاصصة الحزبية بينهم ، باستثناء بعض الوظائف التي يستطيع الرئيس هادي فرضها "وهي قليلة" .
وهناك سؤال آخر وهو ؛ هل يجوز لهم ترك وظائف السلطة بسبب عدم دفع رواتبهم..؟ بالنسبة للجنوبي الباحث عن راتب ودخل شخصي يجوز له ترك الوظيفة ، أما المناضل في الحراك والمقاومة الجنوبية فلايجوز له ؛ لأنَّه إذا فعل ذلك فهو يشهد على نفسه بالكذب في سنوات النضال الماضية ؛ فالمناضل الذي ناضل لسنوات من أجل الجنوب دون طلب من أحد ، وبدون راتب ولا أجر ، لايمكن أن يتخلى اليوم عن موقع نضالي يخدم به الجنوب أكثر من خدمته في المسيرات .
لقد وقع شباب المقاومة والحراك في المفهوم الخطأ للنضال ونوعياته ومقتضيات مراحله ؛ وهذا دفعهم إلى ترك الوظائف في جهاز السلطة ، بل ذهب بعض الكتاب والمنظرين إلى إطلاق دعوات تطالب الجميع بالاستقالة من الوظائف الرسمية والعودة إلى المسيرات ، وهذا قمة الارتباك الفكري في مسيرة الثورة .
على كل مناضل في الحراك أن يتذكر أن الثورة الجنوبية لم تنتهي ؛ وأنَّ المرحلة مازالت مرحلة نضال لفرض إرادة الشعب الجنوبي ، وعليه التفاني في الوظيفة الرسمية بكل جهده . . . ففي هذه المرحلة انتقل النضال من الشارع والحراك السلمي إلى المرافق الحكومية ؛ كنتم تسيرون في المسيرات وتحييون الفعاليات والاعتصامات وتقدمون التضحيات بأيدي جنود الاستعمار ، واليوم تناضلون في الجيش والأمن والمرافق المدنية وتقدمون التضحيات بأيدي الجناح الإرهابي للاستعمار .
هذا المفهوم للنضال يجب أن يكون في عقل كل شباب وشابة حصل على فرصة وظيفة في جهاز السلطة ؛ وهذه الثقافة النضالية يجب أن تكون محور اهتمام الكتاب والمتحدثين الجنوبيين .
ولم يقع شباب المقاومة والحراك في خطأ فهم المرحلة النضالية بمفردهم بل وقع فيه أيضاً كبار قيادات الحراك والمقاومة المعينين في الوظائف الرسمية ، ولكن من جانب آخر ؛ فهم تجاهلوا شركائهم في النضال واتحدوا مع أجهزة السلطة "اتحاد مصيري" وهذا كان الخطأ القاتل...؟ .. إذ كيف لهم أن يثقوا بأناس كانوا على مدى سنوات أدوات النظام الاستعماري في قمع الشعب الجنوبي وقتله ونهبه..!!!
كان على القيادات "المعينة" استغلال التفويض الشعبي لهم والقيام بحركة تغييرات وتعيينات جديدة بموجب الصلاحيات التي كفلها لهم الدستور وكفلتها لهم المبادرة الخليجية والتحالف وكفلتها شرعية المقاومة بعد النصر ؛ ومن داخل كل جهاز حكومي كانوا يستطيعون اكتشاف شخصيات محترمة لم تشترك في ضرب شعبنا خلال السنوات الماضية ، وتمتلك ملكات قيادية ، ويحملون بين ضلوعهم إخلاص وطني مجرَّد من المصلحة الشخصية .
وكان عليهم تشكيل قيادة "ظل" كفوءة من زملائهم في النضال ، قيادة موازية تساعدهم في إدارة البلاد ، وتقف بالمرصاد لمؤامرات الدولة العميقة .
عموماً ؛ مازالت المعركة قائمة ، ومازالت الثورة الجنوبية سيف الشعب الجنوبي ، ومازال الوقت فيه متسع لعمل الكثير ، ولكل مرحلة حيثياتها ، ولها ضحاياها ، فهي كالمطحنة تطحن كل من يدخلها دون أن يستوعب شروطها أو يدرك تحدياتها ، وفي آخر المطاف سينتصر الشعب .