جيوش الشاشات التلفزيونية تحوي فرقاً دفاعية وأخرى هجومية وثالثة متأرجحة بين هذه وتلك، تارة وفق اتجاه الرياح السياسية، وأخرى استجابة للضرورة الوطنية، وثالثة انعكاساً للمصالح بين شخصية استثمارية وسلطوية وربما مجرد هوائية.
انفلات الحالة التلفزيونية وتحلّل المنظومة الرقابية وتبخّر رداء الانصياع للتعليمات الحكومية تزامناً وهبوب الرياح الربيعية، وتفتّت القوى النظامية وبزوغ شمس المصالح، جعل من الأثير العربي المرئي بعد 5 سنوات من التغيير العنيف والرجّ المريع وفوضى بأنواعها، يطل على ملايين المشاهدين العرب في عقر دارهم أو محيط مخيماتهم أو بيئات انتشارهم كلاجئين ومهاجرين وطلاب حماية.
وسواء أحبوا أو كرهوا، أو شاؤوا أو أبوا، أو كانوا على قناعة أو بناء على كراهية يجدون أنفسهم أسيري مجموعات قتالية ينضح بها الأثير على مدار ساعات النهار والليل.
سمهم مذيعين، أو انعتهم بالإعلاميين، أو صفهم بالمحللين، أو اعتبرهم صحافيين، أو ضعهم في خانة العالمين بالخفايا. فالمسميات لا تهم. المحصلة النهائية أن ملايين العرب صاروا أسرى لهم.
تبدو العلاقة أحياناً علاقة حب شديد وارتباط أكيد، حيث يحدثهم المذيع عن مستقبلهم الوردي ومصيرهم المتلألئ. لكن أحياناً أخرى هي حب - كراهية، فهو يصارحهم بالحقائق ويواجههم بالوقائع، وغالبيتها إن لم تدفع إلى الانتحار فهي مدعاة إلى الاكتئاب. وفي أحوال أخرى العلاقة شدّ وجذب. فهو يباغتهم بأخبار يودّون لو يجهلونها، ويطالبهم باتخاذ مواقف بطولية والتقدم إلى الصفوف الأمامية تحقيقاً لغايات وطنية، وهم لا حول لهم أو قوّة، حيث الوطنيّة تبخّرت في هواء الثيوقراطية والقومية وقعت صريعة الفساد وضحية الاستبداد.
وربما يصدمهم بنظريات كونية ذات أبعاد فضائية حيث كائنات من كواكب بعيدة تخطط للسيطرة على هذا الجزء من الأرض، أو يدفعهم إلى عوالم الدجل ومجالات الشعوذة فيأتي بمن ينظّر في البلّورة المسحورة ليهدّئ من روعهم لأن قوى ما وراء الطبيعة وعوامل الجان السفلي تتحكم في مصيرهم ومن ثم لا حاجة للهلع ولا مجال للفزع، أو ليؤجج من رعبهم حيث كوارث تحدق بهم العام المقبل ومآساة تحاك من أجلهم في نهاية العام الحالي.
مملكة المذيعين والإعلاميين والمحللين والصحافيين التلفزيونيين تبدو مستقلة، لكنها واقعة تحت استعمار رهيب لا يهدأ أو يلين. يبدو هذا حر نفسه، ويظهر ذاك كأنه يملك رأيه، ويتحدث ثالث من أعلى برج الحرية العاجي، لكن الجميع يعلم، على جانبي الشاشة، أن الغالبية ما هي إلا انعكاسات مرئية ووجوه تلفزيونية وأبواق خبرية وأخرى اجتماعية وثالثة إرشادية لقوى سلطوية تتحكم بهم من بعد.
هذه القوى عارية من التناغم، فهي تحالفات مصالح سياسية وأملاك اقتصادية وأهداف تتراوح على مقياس ريختر التلفزيوني بين مدمّرة ومدمّرة جداً ومدمّرة تماماً.