نحتاج إلى شجاعة بالطاقة النووية كي نعترف أن لدينا في الجنوب مشكلة عويصة وعويصة للغاية ؛ مشكلة اسمها تجوزا ومجازا وتعريضا وكناية واستعارة ؛ مشكلة "جيش الأرامل " ؛ وبالتحديد وكي أكون شديد التوضيح اقول ان كل متزوجة في الجنوب وبسبب عزوف الأزواج عن ممارسة دور التربية للأبناء ورمي كل الحمل على الأمهات اقول انه وبسبب ذلك يجوز لنا التجوز في أن نعتبر أن غالب الأمهات الجنوبيات فيما يخص بصمة التربية المتروكة على سلوك الاولاد ؛ أنهن نساء في حكم الأرامل ؛ وجاز لنا جريا على هذا التطريد ان نقول ان جميع الجيل الناشئ في الجنوب منذ التسعينات على وجه الخصوص ووفقا لهذا التوصيف هم أبناء ألامهات .. وبمعنى شديد الوضوح نحن نواجه اليوم تحدي ومشكلات جيل جنوبي كامل تربى تربية الأيتام .. انه جيل مر من بين تقاطعات المسئولية لمؤسسات التربية بدءا بالاسرة ؛ فالمدرسة ؛ وانتهاء بالمجتمع ؛ فحالة الاتحاد الكونفدرالي بين الزوجين الجنوبيين خصوصا في الأرياف وانحصار العلاقة بينهما على وحدة السرير - أن وجدت - تعد السبب الاساس لحالة نشوء الجيل الجديد في تغييب تام لملامح كيان أسري متوازن ينتج ناشئة مستقيمة الشعور والعاطفة .. الأب في عالم الريف الجنوبي حاليا لا يظهر دوره في التربية ؛ الا دفاعا عن العيب العام ؛ وهو دفاع لا يظهر إلا حين تأتي الشكوى من سلوك الابن ، ويمارس هذا الدور في ظل تضييق كبير من قبل الأم التي تجتهد في أن تعيق هذا المجهود الابوي حتى لا يصل إلى درجة تعنيف الولد ؛ فبحسب وجهة نظر الأم يجب ألا ينمو الولد ضعيفا ، متوحدا ، هش الشخصية ؛ خصوصا ؛ وهي ترى فيه رأسمالها المنتظر في أن يسد مسد تقصير الزوج في جوانب الإنفاق على الأسرة ؛ ومع انه دور محدود فهو يؤديه في ظروف نادرة لان افراد هذا الجيل لا يثيرون الشكوى إلا فيما ندر ؛ فهم مبرمجون على تنشئة اقتصادية تعادل مفهوم "المرجلة" كما تفهمه وتقصده الأمهات ؛ وبالتالي فقائمة القيم والاساسيات التي تثير الاحتكاك بين افراد هذا الجيل تكاد ان تنعدم فيما عدا فرضية ان يتزاحموا على فرصة عمل أو وظيفة أو "صرفة" .. ؛ سياسا ؛ يؤدي عزوف الاباء عن واجب التربية والتفاتهم الى ملاحقة الوضع السياسي للجنوب والاشتغال بنتائج حالة 7 يوليو 1994م وانعكاساتها على وضع الجنوب عموما ؛ يؤدي إلى الإجهاز على بقية الدور التربوي الاساس في محيط الأسرة الجنوبية خصوصاً في الريف باسقاط كلي لالتزامات رب الاسرة التربوية تجاه الابناء بسبب الانخراط في تفاصيل أمور سياسية تسرق في العادة كل الاهتمام والتركيز .. ؛ فيسلوجيا ؛ ينطبق الحال كذلك على حالات الانجاب في سن الشيخوخة ، فهنا ياتي طاقم اسري متكامل في كنف زوج عاجز لا يقوى على القيام بواجب الملاحظة وتربية الاولاد .. ؛ اقتصاديا ؛ يؤدي دخول الأولاد في خط تمويل ميزانية الأسرة ؛ بسبب محدودية دخل الاباء ؛ يؤدي إلى تآكل ظاهرة الأب الحديدي القيم بشكل خشن على تهذيب سلوك الاولاد ؛ وعلى عكس التوقعات يستميت الوالد في الدفاع عن الولد بمجرد أن يشب وينخرط الاخير في اي مشروع يدر عليه دخلا يلمس أثره في نفقات البيت ؛ يكفي أن يكون مصدر التربح مجهولا حتى يستميت الوالد في نصرة الولد ظالما أو مظلوما ؛ فالولد بحسب هواجس الوالد محسود ؛ وبسرعة تتحول كل الشكاوى والدعاوى والتبرمات على سلوك الابن مجرد عراقيل يضعها الحاقدون على طريق درب الولد الناجح .. وهنا يستعيد الأب أثر سلبيته على نشأة الولد للمرة الثانية بعد أن يتدخل في خط حياته بطريقة تقوي خانة الاعوجاج التي نشأت بفعل السلبية الأبوية الأولى .. ولعل الانتعاش الاقتصادي الذي تشهده مناطق الريف في قطاعي النقل وبيع التجزئة يجعل السباق مميتا على جني الاموال بين شباب هذا التيار الامومي السلبي ؛ فثمة شباب اتجروا في ظرف قياسي ؛ ومن لم يلحق بالركب منهم يعيش في توثب مقيم ينتظر الفرصة وهو يقبض على الجمر بكفيه .. وهكذا يتظافر هذا التحفز مخلوطا برؤية العوز الامومي وظاهرة الأب السلبي واعراف المجتمع الجديدة ذات التحفيز العالي على تجميع الثروة ؛ كل تلك العوامل المؤثرة تتجمع في تكوين أعراف مجتمعية ذات طابع إقتصادي غالب ؛ وتدفع هؤلاء بإتجاه اقتحام ميادين الكسب بطريقة همجية تشبه حالة العدو التنافسية على الكراسي في لعبة الكراسي المدرسية .. لنقل كذلك أن عامل المؤامرة موجود في هذا المنتج حيث أن سياسية التجهيل التي أتبعت في الجنوب وكنا للأسف مساهمين فيها بشيء من تراخينا وتغافلنا ؛ لنقل أنها أثمرت اليوم وانتجت هذا الجيش المجهل ؛ ولكن لنعترف قليلا بأن سلوكنا في مؤسسات التعليم وتحولنا في المدارس من مربين وأصحاب رسالة الى مدرسين بالاجر اليومي ؛ تحويلنا المدارس الى ساحة اطماع ؛ ووشاية ، ودسائس ، ومؤامرات ، ومؤتمر ، وإصلاح ، ومظاهرات ، ومرتب ، واستقطاعات ، وشراء بالتقسيط ، وتصارع على المسئولية ، وتسابق على مهنة محاسب ؛ كل ذلك يجعلنا مساهمين أساسيين في أزمة هذا الجيل ..
؛ ومهما يكن من أمر ؛ ومهما كانت الأسباب ؛ فإن علينا الآن أن نستعد ؛ ونستحضر أدبيات التعاطي مع جيش الأمهات الذي ينفذ أفكارا تصنع في الداخل النسائي ويطبقها هذا بطريقة مؤدلجة كما هي وبالحرف على معطيات تعاطيه مع الخارج المجتمعي مهما كانت هذه الافكار صادمة وجافة وغير مألوفة أحيانا ..
وعلينا وفقا لذلك أن نتقبل فكرة أن جيلا بالكامل من بني جلدتنا قد تركب في سلاسلنا البشرية دون أن نعلم أنه شب على الازمات وتربى في حضانة عدم الاستقرار الامني والسياسي المخيم على جو الحياة العامة منذ منتصف التسعينات ، وخصوصا تربى على انعكاسات الضائقة الاقتصادية للمجتمع الجنوبي المتكون من صغار الموظفين ومحدودي الدخل ناهيك عن المبعدين القسريين وغير الموظفين وذوي الأجر اليومي ، ويظل هذا العامل ضاغطا ملحا على تحركات أبناء هذا الجيل خلال حيز طلب الرزق الذي يتقاطع مع خطوط ذات بعد سياسي كما الحال في موضوعات ؛ الحرب الأخيرة ؛ الانخراط في عمل المقاومة ؛ حالات الازدحام على طلب التجنيد العسكري ؛ الانجرار إلى المشاريع المليشاوية ؛ القتال خارج حدود القطر الجنوبي السابق ؛ والأمثلة تطول ..
تكمن اقسى صور الخطورة المتصورة في مسار هذا الجيل الذي يملك رفضا بنيويا لمقتضيات الانظباط الطبيعي ؛ تكمن تلك الخطورة في امكانيات ان تؤدي البطالة ونقص فرص العمل إلى تكوين مخاطر توجيه هذا الخضم الشبابي إلى إمكانية مخالفة القانون والشروع في العصيان ، ومقاومة ما يفرضه النظام ، وتحدي القانون ، وارتكاب جرائم عنيفة تحت مبررات لا تسنسجم مع ابسط مقررات الفطرة السليمة ؛ كما انهم معرضون لمخاطر الانخرط في جماعات اجرامية متخصصة في جرائم السلب والنهب والخطف والتقطع والسرقة والتعدي وجرائم الإعتداء على الملك عموما ؛ وربما يقترفون جريمة القتل بشرط ان تتأتى بوادرها بمعية حد ادنى من حجج تتماشى مع الهوس الامومي المتكدس في عقولهم عن معاني الشطارة والكسب والكد في سبيل تمويل الأسرة .. هذا الجيل لديه طاقة كامنة من الرفض ضد مقتضيات القانون وتكثر الفرص في أن يتقوى هذا الرفض بفعل الجو الأمني المنفلت الذي يطبع حال الحياة السياسية والأمنية بمحافظات الجنوب ؛ وربما يتفاقم هذا الرفض ليتطور إلى ميلان جنائي بإتجاه الجنوح إلى القتل خصوصاً في ظل تنامي المشهد المحيط بصور تحول الرؤوس البشرية إلى أهداف مشروعة في حوادث الاغتيالات شبه اليومية التي تشهدها مدينة عدن ؛ وربما تساهم بطريق الخطأ بعض الموروثات العشائرية التي تمجد من فعلة القتل - نظرا لتاثرهم بمعاني الثأر القبلي - ربما تزيد من مخاطر تغذية المبررات الموصلة إلى استسهال المسير في طريق القتل في أدمغة اصلا هي عقول فارغة المحتوى تقريبا .. ان قيمة هذه المشكلة تتمثل في أن ما يقتطعه حضور دور الأب في شخصية الولد من ظلال سلطة ابوية تتحول إلى شحنة طائعة تتقبل فكرة الخضوع لمفترضات النظام والقانون ؛ هذا القابلية توشك أن تنعدم في شخصية " جيل الارامل" ؛ وهنا ينمو الولد بكامل طاقته المنجذبة إلى التمرد ، وهو مكتمل الاستعداد لأن يقف مدافعا بفجاجة صبيانية عن طريق الإلتحاق بصعيد الكسب الذي اختاره طائعا مهما كان هذا الطريق سبيلا للشيطان .. فعلى سبيل المثال رأينا كم كانت النخب الجنوبية السياسية والإعلامية في وضع مخجل سيما وقد اتكلت في تصريحاتها على ابقاء الطابع الجنوبي للمقاومة الجنوبية بالابقاء على واجب المقاومة في حدود الداخل الجنوبي ؛ راينا كيف تحول هذا الاتكال الى هباء منثورا بعد ان تدفقت جيوش الأمهات بإتجاه الحرب في كرش دون حتى أن تتعب عقلها في تدبر الهدف الأسمى الذي أرادته تلك النخب على صعيد تعزيز الهوية الجنوبية للحرب في جنوباليمن .. الصورة ليست قاتمة بالمرة يا سادة ؛؛ حيث يمكن أن يتحول هذا الجيل إلى رافعة صلبة لنهضة الجنوب في القطاعات الأمنية والعسكرية والاقتصادية ؛ فقط نحتاج إلى إدارة سليمة وامكانيات لتوجية مقدرات هذا الجيل ؛ المفتول الغريزة ؛ لكي تتدفق في الاتجاه المثمر وتتحول إلى العتلة التي نحتاجها لأجل البناء والتشييد ،،،