قبل ان تهدد العرب والجزيرة العربية بدأت فزاعة الجنوب الزائفة ببث الرُعب والخوف في أهلها، فقُتل من قُتل ونجا بجلده من الموت من نجا وتم ترويض البقية الباقية وتدجينها. ذلك هو النظام الذي حكم جنوباليمن لأكثر من عقدين من الزمن، أستورث إدارته من بريطانيا واستمد قوته من معسكر الشرق الاشتراكي وسلّم عقله وتفكيره لحكُماء وساسة الإتحاد السوفيتي الذين إخضعوا البلاد وأهلها لتجارب فلاسفتهم ففصلوا المجتمع عن موروثه الحضاري وعزلوه عن محيطه العربي وثقافته الإسلامية. وخلال تلك الفترة التي عقبت إستقلال الجنوب مباشرة استغل ساسة اليمن الشمالي ومنظروه حماسة الجنوبيين وتطلعهم لبنأ الدولة الجديدة وتوجههم الإشتراكي فدسّوا أعوانهم بين حشود المتحمسين متظاهرين بحماستهم وإعجابهم بتوجّه الجنوب الفريد فمُنحوا ثقة الجنوبيين المطلقة حتى بلغوا أعلى مراتب الحكم والقرار في الجنوب. وبما ان النظام الإشتراكي الذي انتهجه جنوباليمن لم يكن يؤمن بموسى ولا برسالة محمد، فتهيئت الفُرصة للسامري الآتي من أقاصي الشمال اليمني ان يقبض قبضته من أثر لينين فأغوى بها ساسة الجنوب وقادتها، ليس بيمننة الشعب الجنوبي وحسب بل بتزييف الرؤية عندهم حتّى بدينا لأنفسنا أفضل وأكبر وأقوى من حقيقتنا. لقد تمكّنت العناصر الشمالية ان تعتلي سنام الحزب الإشتراكي اليمني الحاكم المطلق في الجنوب فبالغوا في موالاتهم له من خلال تشجيعهم لمهاجمة الأراضي الشمالية التي ينتمون لها فتمكن جيش اليمنالجنوبي من التوغل في عمق الأراضي الشمالية بإتجاه تعز ومأرب والبيضاء ولم ينسحب منها إلّا عقب تدخل الجامعة العربية وبإيعاز من القيادة السوفيتية. فإذا لم يدبرون عمالقة أعالي اليمن حروب حدودية يتظاهرون بالهزيمة فيها أمام السعودية ودول الخليج العربي فلابد ما يشعلونها في الداخل الجنوبي لتصفية من يوشك ان يستيقظ من غفلته.
إن كُل الظروف والمنعطفات الخطيرة التي مر بها جنوباليمن وما عاناه ويعانيه شعب الجنوب من تجارب فاشلة وما تلاها من ظلم وتهميش فردي وجماعي ليس وليد الوحدة اليمنية كما يُشاع، بل هو أقدم من ذلك بكثير، ولم يكن إعلان الوحدة اليمنية إلّا إشهار رسمي للقائمين الفعليين على إدارة أرض الجنوب من نخبة اليمن الشمالي السياسية والقبلية التي تحكّمت في الأرض والإنسان منذ إستقلال الجنوب قبل حوالي نصف قرن من الزمان. لم يكن شعب الجنوب وقيادته السياسية يعرفون عن الشمال اليمني ونظامه قبل إعلان الوحدة اليمنية إلّا ما يتصنّعه ويمثله عباقرة هضاب اليمن الشمالية العلياء خصيصاً لساسة الجنوب وما يصدرون لهم من معلومات مغلوطة. انه العماء السياسي المزمن الذي عانت منه قيادة الجنوب وساسته طوال فترة حكمهم الوهمي للجنوب حتّى قادهم لقبول الوحدة الإندماجية مع الشمال، ولم يكتشفون علّتهم ويشخّصون مرضهم إلّا بعد تناول أغصان القات اليمني في طيرمانات صنعاء المعلقة، ولكن بعد فوات الأوان.
انني اليوم وغيري كثيرين على يقين تام، بعد سنين من الجهل والغزو، ان الهزائم المتلاحقة التي كانت تُمنى بها الجيوش الشمالية أمام نظيرتها الجنوبية ليست إلّا إنسحابات ذكيّة صنعت منها صنعاء فزّاعة تخيف بها جيرانها الإثريا. لقد تظاهر اليمن الشمالي أمام السعودية ودول الخليج العربي انهم خط الدفاع الأول لمواجهة المد الشيوعي القادم من الجنوب ليهدد جزيرة العرب فمسّدوا بقرة الخليج العربي وربّتوا على ظهرها ثم حلبوها لسنوات عديدة على حساب فزاعة الجنوب الزائفة. ولايزال الجنوب يخضع لنفس السيناريو ولكن بحبكة درامية مغايرة تتناسب مع العصر الحديث. فبعد إنهيار المعسكر الشرقي في مهده وإنجاز مراسيم إشهار حُكّام الجنوب الفعليين وتعميد حُكمهم المعلن لشمال اليمنوجنوبه تحوّلت أرض الجنوب من فزّاعة مسيّرة الى بقرة حلوب يُخشى ضياعها فأنشأوا لها دهاة اليمن أحزاب سياسية هُم من يقودها ويرسمون سياستها، استطاعوا من خلالها تمرير خططهم وتنفيذ إراداتهم بأيادي جنوبية وقفت ضد إرادة شعب الجنوب وشرخت لُحمته وشقّت صفّه.
لقد أثبتت لنا الأيام الخوالي والسنين الماضيات العِجاف ان الجنوبيين والشماليين ليسوا أُمّةٌ واحدة، وكلما توغّل الناظر في أعالي اليمن كلما زادت عناصر الفرقة والتباين بين الشعبين. ولذلك فإن إستمرار الوحدة بأي صورة كانت بين الشمال والجنوب ليس إلّا إنتحار وإهلاك لما تبقى من الشمال والجنوب على حدٍ سواء، وهو ما يعني إستمرار للصراع المسلّح في المنطقة وتوفير بيئة ملائمة لنمو الإرهاب والتطرف الذي لا شك ان تطال أطرافه دول الجوار. انني لست إنفصالي بالفطرة، بل أنني ممن فُتنوا بصنعاء ووقعوا في حبها، وكم كُنت معجب باليمن وتاريخه العريق وحنكة قيادته، وباليمنيين ومثابرتهم ووفائهم، ولكن لكل شعب الحق في تقرير مصيره، وليس للعواطف والرغبات الفردية مكانٌ أمام إرادة الشعوب، ولا يمكن لتبريرات التغيير الجوفى ان تغيّب الحقيقة وتغيّر المسارات، فلم يُنجِب الذئب حَملاً قط، ويظل الذئب ذئباً وإن تربّى على حليب البقر.