خليل الزكري ردا على مقال حسام ردمان : "التمدد شرقاً.. أهداف المجلس الانتقالي الجنوبي وحسابات أبوظبي" يقدم الزميل حسام ردمان في مقاله قراءة ترى في التمدد العسكري للمجلس الانتقالي الجنوبي شرقا، وصولا إلى وادي وصحراء حضرموت والمهرة، خطوة حاسمة على طريق الاستقلال، ونتاجا لتفوق استراتيجي مدعوم إماراتيا. غير أن هذه القراءة، رغم تماسكها السردي، تنطوي على قفزات سياسية خطيرة، وتخلط بين فرض السيطرة بوصفه فعلا عسكريا، وبناء الدولة بوصفه عملية سياسية معقدة ومشروطة. الحديث عن أن المجلس الانتقالي الجنوبي بات على أعتاب تحقيق مشروعه الاستقلالي (إقامة دولة الجنوب العربي)، استنادا إلى فرض سيطرة عسكرية على وادي وصحراء حضرموت والمهرة بدعم إماراتي، يعكس قراءة سياسية متعجلة، تخلط بين السيطرة كفعل عسكري، والدولة كمنظومة حكم وشرعية وتوافقات إقليمية ودولية. نعم، فرض المجلس الانتقالي نفوذا عسكريا مباشرا في الشرق، وبسرعة لافتة. لكن هذا التقدم لم يكن نتاج تفوق ذاتي بقدر ما كان نتيجة انهيار مزدوج: انهيار بنية الدولة، وتآكل قدرة الخصوم على المقاومة. وهو فارق جوهري، لأن ما ينتزع في لحظة فراغ لا يتحول تلقائيا إلى مكسب دائم، بل غالبا ما يصبح عبئا سياسيا وأمنيا، وورقة ضغط تستخدم ضد الانتقالي على طاولة المفاوضات. الأخطر من ذلك، أن هذا التمدد لم يترجم إلى قبول محلي، ولا إلى إطار إداري واضح، ولا إلى تصور حكم قابل للاستمرار. فحضرموت والمهرة لم تكونا يوما أرضا بلا سياسة، ولا مجتمعات تنتظر قوة خارجية لتملأ الفراغ. هما فضاءان لهما حسابات معقدة، وتركيبة اجتماعية لا يمكن إخضاعها بمنطق الصدمة العسكرية دون ارتدادات طويلة الأمد. القول إن ما جرى يمثل لحظة حسم يتجاهل حقيقة أن هذه السيطرة نفسها أصبحت موضوع تفاوض إقليمي عاجل بين السعودية والإمارات وسلطنة عمان. وهذا وحده كافٍ لنقض أي ادعاء بالإنجاز النهائي. فلو كان الحسم قائما، لما فُتحت قنوات التفاوض على سحب القوات، أو إعادة انتشارها، أو استبدالها بقوى محلية أخف تسليحا. أما تصوير السعودية كطرف مرتبك أو مهزوم، فهو إسقاط رغبة أكثر منه تحليلا واقعيا. الرياض لم تخسر المعركة لأنها لم تدخلها أصلا بالشكل الذي يتصوره البعض. هي تدير الملف باعتباره صراع نفوذ طويل النفس، وتمسك بأوراق أكثر خطورة من الأرض: الشرعية الدولية، الموارد، الحدود، والقدرة على تعطيل أي مشروع لا يمر عبرها، مهما كان حجم الراعي الإقليمي، خصوصا في اليمن. وفي المقابل، تكشف التطورات حدود القوة الإماراتية نفسها. فالدعم العسكري السريع قادر على تغيير الخريطة، لكنه عاجز عن تثبيتها دون تفاهمات إقليمية صلبة. لهذا لم تتحول السيطرة إلى إعلان سياسي، ولم تُستكمل بخطوات سيادية، بل دخلت مباشرة غرفة التفاوض. الأزمة الأعمق أن المجلس الانتقالي، وهو يخوض هذه المغامرة شرقا، لم يحسم بعد معركة الحكم في مناطقه الأساسية. عدن، التي يفترض أنها عاصمة الدولة الجنوبية المقبلة، تعيش فشلا إداريا وخدميا متراكما، وانهيارا اقتصاديا خانقا، وسط غياب شبه كامل لمفهوم الدولة. فمن يعجز عن إدارة مركزه، لا يملك أهلية لإدارة الأطراف. كل ما يجري اليوم يؤكد أن المشروع الجنوبي، الذي يتبناه الانتقالي، بصيغته الحالية، لم يغادر بعد منطق الميليشيا الموسعة إلى منطق الدولة. السيطرة العسكرية سبقت السياسة، والسلاح سبق العقد الاجتماعي، والقرار المحلي مرتهنا للتوازنات الإقليمية. فمحاولة الانتقالي استنساخ تجربة الجبهة القومية لتحرير الجنوب في ستينيات القرن الماضي، دون إدراك اختلاف السياق التاريخي، لا تقوده إلى استعادة التجربة، بل إلى ما يمكن تسميته ب"مكر التاريخ". لهذا، فإن الحديث عن اقتراب لحظة الاستقلال، أو عن أن الانتقالي بات يفرض شروطه النهائية، لا يعكس الواقع بقدر ما يعكس رغبة في تحويل تقدم عسكري ظرفي إلى سردية انتصار. وما لم يتحول هذا التقدم إلى قبول محلي، ونموذج حكم فعلي، وتوافق إقليمي صريح، في سياق الشرعية الدولية، فإن ما يبدو اليوم توسعا استراتيجيا قد يتحول غدا إلى استنزاف مفتوح، لا إلى دولة. ما حدث في حضرموت والمهرة ليس إعلان دولة، بل اختبارا قاسيا لحدود القوة. وقد نجح المجلس الانتقالي في فرض الأمر الواقع، لكنه فشل حتى الآن في تحويله إلى واقع سياسي مستقر. والفرق بين الأمرين هو الفرق بين سلطة مؤقتة ودولة حقيقية. بمعنى أكثر تركيزا: ما نشهده اليوم ليس لحظة استقلال، بل ذروة اشتباك بين مشاريع متنافسة على جنوب بلا دولة. ربما ربح فيها المجلس الانتقالي جولة عسكرية، لكنه لم يحسم معركة الدولة بعد، ولا امتلك شروطها السياسية والاقتصادية والإقليمية. المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك