في قراءة ربما بدت للبعض منا مستفزة ، ولا اقول منطقية للبعض الاخر، بل اني اتصورها معقولة ومقبوله مع تأكيدي ان نسب الفهم متفاوته من شخص الى اخر،كما هي ايضا درجات الذكاء متباينة بين الافراد، وازاء هذه الحقائق التي لابد منها في بداية سطوري هذه ، وجدتني في خضم قراءة متأنية وهادئة في نص ادبي رائع كنت قد مررت عليه من قبل في قراءة سابقة ، وهو نص محترم يجبرك كاتبه الاديب الكولومبي الامريكي اللاتيني العالمي"جابرييل غارسيا ماركيز" ان تعود اليه ، وتقرأه مرات ومرات. وفي قراءتي الثانية ، تملكني احساس انني اقرأه لاول مرة، وهذه فائدة وجدت فيها خلاصة لفائدة لا تخصني لوحدي حرصت ان اشمل بها قطاع عريض وواسع من المغرمين بماركيز واسلوبه الساحر انها واحدة من اهم قصص ماركيز القصيرة المترجمه والتي نجده يقدم لنا من خلالها انموذجا حيا وصادقا عن واقعيته السحرية التي بهر بها الاوساط الادبية والثقافية ليس في مسقط رأسه وحسب بل على مستوى العالم كله، والتي شق بها طريقه الابداعي الى العالمية حاصدا الجوائز العديدة ، وفي مقدمتها بكل تاكيد جائزة نوبل العالمية .
لقد عمل ماركيز طيلة مشواره الابداعي في مجاله الذي تبوأ مكانة عالية فيه ومتوجا ملكا على عرشه على اقل تقدير حتى الان عمل وسعى ونجح في ان يقدم لنا واقعيته السحرية من خلال اعتماده اسلوب التداخل ، او لنقل مزج و ادماج كل ماهو واقعي بكل ماهو فانتازي ومتخيل ، وايضا خرافي ، وهذا العالم هو عند ماركيز عالم قائم بذاته ، وكل معطياته المتخيلة والمأخوذة ببراعة فنية من العالم الاخر ، عالم اللاواقع وايضا العوالم الاكثر انفتاحا على الاساطير والمرويات الشعبية التي يطلق عليها بتعبير اكثر دقة ومهنية الخرافات التي تعج باللا معقول والخارق من العادات والامور هذه المهنية والتقنية السردية نجح ماركيز في ان يسقطها اسقاطا واعيا ومدركا على اغلب حبكاته السردية وبفنية عالية تتميز بها الرواية والقصة والقصة الاخيرة عنده. وفي قصته المثال هنا والمترجمة ؛ والتي كتبها تحت عنوان جاذب هو"رجل طاعن بأجنحة عملاقة" فاننا نلحظ ، ومن البداية ومنطلقها الرئيس وهو العنوان مدى تعلق ماركيز بذلك المتخيل اللا واقعي اذ ان الكتاب وكما يقال يعرف من عنوانه ، وهو عند ماركيز كذلك، وقد تعمد قاصدا كماهو دابه ومسعاه الحثيث الذي يتفرد به في عديد نتاجه المحسوب على تلك المدرسة الابداعية سالفة الذكر التي بنى عليها هندسته الادبية في نصوصة المختلفة والمتوزعة على اكثر من نوع سردي، واذا امعنا التأمل وسألنا لماذا، لكانت الاجابة : انه يتبع هذا النهج انما ليشد قارئه ليس من اول مفردة يستهل بها النص والابحار عميقا الى المتن ومن ثم الولوج به الى عوالم النص والتحليق مع شخوصه كلا في عالمه الخاص ووفقا لمجرى سير الحكاية، بل من خلال العنوان الذي نجده مصرا عليه في ان يكون نصه الاول ودلالته و جواز عبوره السردي الامن والسلس ، وفي الوقت عينه المحفز في فتح شهية قارئه لاستقبال نصه بوعي والمام ودراية ، وايضاالاستلهام الواعي لمدلولات مابعد العنوان ومرامي النص القريبة والبعيدة.
تلك خاصية من خصائص الكتابة فيما عرف ويعرف تحت اسم ومصطلح الواقعية السحرية والتي ذاع صيتها بذيوع صيت ماركيز بعد حصوله على جائزة نوبل على رواياته" مائة عام من زمن العزله"و" الحب في زمن الكوليرا " و غيرها ، وقد احتسبها النقاد له في الاعم من اعماله السابقة والحديثة.
خاصية ابداعية يأخذ بها ماركيز بتلابيب قارئه ويمنحه سياحة سردية رائعة وممتعة الى الى داخل متن نصه المزدحم بالغرائبية والعجائب ، ويالها من سياحة:( الكون يشعر بالاسى منذ الثلاثاء التحم البحر بالسماء وصارا قطعة واحدة من الرماد) ان هذه الصورة السردية لا يمكن ان تكون واقعية الا في رؤويا وحلم منام ، الا انها هي هنا عند ماركيز واقعية جدا بحسب متخيله السردي الذي يواجهنا به متجسدا في مزج او لنقل بعبارة اوضح وادق ادماج فني بديع لما هو في اصله خرافي واسطوري بماهو الاصل عينه وهو الواقع المحكى عنه في النص الادبي ليتجلى لنا السحر بذاته، اقرأ معي: (كان من الصعب عليه ان يرى ذلك الذي يتحرك ويئن في اخر الساحة . توجب عليه ان يقترب اكثر ليرى انه رجل عجوز، عجوز جدا، منكب على وجهه في الوحل، وهو بالرغم من كل الجهود المضنية التي يبذلها، لا يستطيع النهوض، وذلك بسبب جناحين هائلين كانا يعيقانه)* وبعد ذلك ، يتركنا ماركيز في متابعة قصته طال ام قصر زمن السرد فيها باشتياق ودهشة تحاكي فينا دهشة البراءةلدى الاطفال وفضولهم للتعرف على العالم الجميل الذي نفك طلاسمه والغازه ، وهذا هو ما جعلني ان اكتب هذه العجالة ، ولكي ايضا تكون انت شريكي في هذه القراءة العابرة في غيض من فيض عن الواقعية السحرية عند الرائع جدا جابرييل غارسيا ماركيز.
الهامش : *رجل طاعن باجنحة عملاقة من قصص ماركيز الشهيرة ترجمة هاني حجاج نشرتها دورية نوافذ السعودية سبتمبر/2012م.