(استهتار) إن وضع اللغة العربية بات مأساوياً ومقلقاً ينذر بنتائج وخيمة قد تنال من حياة العرب جميعاً ، بل ومستقبلهم إن لم يتم تدارك الأمر من أكاديميين وجامعات مختلفة ، بالإضافة إلى إيجاد سبل المختلفة للحفاظ عليها . هناك حالة من التسيب وانعدام المسؤولية ، وهذا ما يجب أن نعترف به .. فإذا اقتصرنا على تأمل الميدان التعليمي لاستخلصنا نتيجة مؤلمة مفادها أن المتعلمين وغالبية المدرسين تعوزهم القدرة على التواصل اللغوي السليم الفصيح شفهياً وكتابياً ، ناهيك عن الشعراء والكتاب ممن تأتي أهميتهم أكثر من المتخصصين في اللغة وفروعها ، إذ تجد أخطاء فادحة ومجازر رهيبة بحق لغة القران الكريم خصوصاً في فضاءات العالم الإلكتروني الذي أصبح سهلاً وأسرع في إيصال الأدب لكنه أسرع في شيوع الأخطاء من غير الاعتراف به . فهناك استهتار واضح باللغة العربية حيث الأخطاء الإملائية والنحوية والمعجمية أضحت القاعدة .! والصحيح هو الاستثناء عن هذا الموضوع ، والموضوع الأم الإحتفاء باليوم العالمي للغة العربية ..
( احتفاء أم تأبين انتهاء ) كان هذا التقرير كبداية لتحريك المياه الراكدة نحو إحداث ثورة جذرية وتغيير هيكلي في المعطى اللغوي العربي .. فالإحتفاء باليوم العالمي للغة العربية على الرغم من أهميته الرمزية ، لا يمكن أن يحمل أية قيمة مضافة من دون تخطيط استراتيجي عربي يروم إقلاعاً حقيقياً وليس ( مناسباتياً ) يستند إلى سياسة الدعم من أجل الإبداع والإبتكار والإنتاج ، تشجيع القراءة وتكريم الكتاب والمبدعين الذين خصصوا قسطاً وافراً من عمرهم للكتابة والتفكير عربياً ، وتطعيم وسائل الاتصال الحديثة بالخصوص الوسائط السمعية – البصرية بالرامج الحوارية والدرامية والثقافية ب لسان عربي مبين .. هو الإحتفاء .. لكنه التأبين في نظر اخرين فالأمر بحاجة ماسة للنظر إلى جوانب عدة تتصل بنا كعرب منها اللغة التي تكاثرت عليها وسائل الهدم ، منتظرين ومؤملين أن يكون القادم مبشراً للغة وغيرها من همومنا الحياتية . فإننا نرى أن هناك أموراً تدعو فعلاً للحزن والقلق إزاء الحال الذي آلت إليه العربية بين أهلها والناطقين بها في الأزمنة الأخيرة ولا نعني هنا غربة عامة الناس عن لغتهم الأم في التعامل اليومي ، ولكني أعني حال اللغة في المؤسسات التعليمية والأكاديمية والإعلامية والثقافية ، ففي مثل هذه المؤسسات الذي يفترض أن تكون اللغة العربية الفصيحة الرصينة وسيلة منتسبيها لتبليغ رسالتهم المعرفية والتنويرية والتربوية إلى المجتمع ، نجد أن اللغة تشهد تدهوراً مخيفاً قد يصل أحياناً إلى درجة الغربة بين اللغة والكاتب بها ، وأركز هنا على الكتابة لكون المسؤولية فيها أكبر وأخطر من مسؤولية النطق والمشافهة . هناك هوة بين طلاب الجامعة خصوصاً قسم اللغة العربية والآداب بما فيهم طلاب العربية في المستويات العليا وبين الكتابة العربية الفصيحة تزداد اتساعاً من سنة إلى أخرى ، وليس ذلك في شيوع الأخطاء اللغوية والإملائية في الكتابة فحسب ولكن أيضاً لفي أساليب الكتابة ومستويات التعبير باللغة ، ولعل ذلك يعود إلى رداءة المناهج العلمية في المراحل الدراسية الأولى ، أو لتدني مستويات معلمي اللغة العربية .
(هوة) جاءت الوسائط الإلكترونية ومواقع التواصل الإجتماعي في السنوات الأخيرة ، لا أقول لتدق المسمار الأخير في نعش اللغة الأصيلة فلسنا متشائمون إلى هذا الحد ولكن جاءت لتوسع الهوة بين بين اللغة وأهلها ، فصار اللجوء إلى استعمال الأيقونات الجاهزة أو ماشابه ذلك سمة شائعة في التعبير عن الأفكار والمشاعر في مثل هذه الوسائل التواصلية الحديثة وهو أمر جدير بأن يملأ نفوس الغيورين على اللغة العربية حزناً وقلقاً . غير أن ذلك لا يعني بالتأكيد إخفاء من يحافظون على اللغة الأصيلة في كتاباتهم وأحاديثهم ولا يعني كذلك فقدان الأمل بعودة اللغة العربية إلى عهدها الجميل ، ففي المدونة الأدبية العربية المعاصرة – شعراً ونثراً – ما يدل على وجود طائفة من أهل اللغة العربية بل إ تنضح كتاباتهم وإبداعاتهم بجمال العربية الأصيلة .. بل إننا حين نتذكر قول الله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) نشعر بشيء من الأمل والتفاؤل بأن لغتنا العربية محفوظة بحفظ الله لكتابه ، وأن اللغة العربية مهما بلغ في الحال ، سيأتي اليوم الذي تتعافى وفيه ، وتنهض من جديد كما تنهض العنقاء من بين الرماد .
( عز ) سنصدع بين ظهراني الأمم الناطقة جمعاء ، ونردد مع أبي الطيب المتنبي : ذي المعالي فليعلون من تعالى هكذا .. هكذا .. وإلا .. فلا لا شرف ينطح النجوم بروقيه وعز .. يقلقل الأجيالا وهل مثل لغتنا العربية من يضاهيها من اللغات ؟ أو ينال نصيف غزارتها وانفلاق صبح معانيها وانبلاج قرة آدابها وتراثها ، هذا لسان المحب لها والمنافح عنها والمفاخر بها ، وحق لها ذلك السموق الأدبي فهي لغة أهل الجنة واللغة التي تشرفت بكلام عز وجل في محكم تنزيله . لكنها تمر بمحك خطير من التشويه والتسطيح إلى درجة طافحة بالكدرة معتمة بعد إشراق حتى باتت كالعرجون القديم ، فاستبدلوا سلمها سرداباً وأفقها نفقاً ، فبؤنا بحسرتنا وحسرتها . استبدلت كلماتها بكلمات اللغات الأخرى ، وأصبح المتحدث بها في كل حين رجعي والمدجن لسانه بالإنجليزية أو الفرنسية مثقف يتحدث بغلة أهل العصر ، وهذا الإنفصام المتولد في البعض أضحى صحياً في لغة المتعلم والمهندس والطبيب ، وانتقلت عدواه للأجيال تلو الأجيال حتى بات الجين الوراثي يستغيث من طفرته ولوثته . الذي لا يعلمه المعادون لكل جميل وبديع أن الحضارة الراقية واللغة أياً كانت ملتزمتان لا تنفك ، أحدها تستند الأخرى وتتسلق بها وعليها ، وتنجو بنجاتها لتصنع الجد وتحصد المجد .