بعد أن وصلتُ لزاويتي المفضلة على الكورنيش التي أمكثُ فيها لساعات عند كلّ إجازة أسبوعية، جلستُ أتأمّل من حولي وإذ برجلٍ أشْيبُ الرأس، حفر العمر أخاديد في وجنتيه وبالكاد يقف على قدميه ليرمي صنارته في البحر مكابرا يقاوم رعشة يديه دون استسلام للفشل .. يكرر المحاولات الواحة تلو الأخرى إلى إن يتأكد له إنها قد غاصت بالأعماق يجلسُ منتظرا ماذا سيجلب له الحظ من البحر؟ كلما اهتز الخيط يسحبه ببطء .. يحدوه أملا أن يجد سمكة قد تعلقت بصنارته على سبيل الصدفة ليشعر انه مازال قادرا على الانتصار وتحقيق مزيدا من النجاحات بهذه لحياة .. ربما هناك امرأة تنتظر عودته يريد أن يفاجئها عند قدومه إليها أنه مازال ذلك الشاب القادر على اصطياد الأسماك كما كان يفعل أمامها بشبابه عندما كانت ترافقه، ولربما لم يعد يصطحبها معه هذه الأيام خشية أن تشاهده منكسرا إن فشلت مهمته أو تشك في قدراته حتى وإن لم يساورها هذا الشك فإنه هو سيعتقد ذلك، فالرجل يفضل الموت قبل أن تراه حبيبته منكسرا ضعيف مهزوزا لا يقدر على فعل شيء .. بودّه أن يظل في نظرها إلى آخر لحظات حياته ذلك الفارس الذي لا يشق له غبار ! بإصرار لا يخترقهُ اليأس كان كلما قذف صنارته عاد ليجلس على كرسيه الذي نصبه بالقرب من الصنارةِ المثبتةِ على قاعدةٍ حديديةٍ مغروسةٍ بالرمل .. كان قبلها قد أخرج من سيارته الواقفة خلف مكان جلوسه بالضبط أبريق شاي ووعاء حديدي يشعل النار فيه، كيس فحم، علبة مولع فحم، وعلبٌ فيها التحضيرات اللازمة .. وضع كل شيء وبعد إن نضج صب لهُ كأسٌ من الشاي المعتق على الجمر وأخذ يرتشفه بمتعة وكأنه يرتشف نبيذٌ من العنب الأحمر .. يرتشفه وعيناه تتأملان البحر والحلم يراوده، أن تتحقق أمنيته الذي خرج من أجلها .. حلمه البسيط لا يتعدى سمكة واحدة تشبع غروره وتشعره بنشوة الانتصار الذي افتقد لذتها منذ زمن بعيد .. مازال يعتقد نفسه ذلك الشاب القادر على تحقيق أحلامه ولم يستسلم بعد بعد إن كان قد غرق بنوبة تفكير عميقة رأى الخيط يهتز فقفز ونسي نفسه وكل أوجاع الدهر التي أنهكت جسده .. قفز وكأنه مراهق لم يتجاوز الرابعة عشر من العمر .. مرة أخرى أعتقد أن الله قد أرسل له سمكة لتتعلق بصنارته كهدية سماوية لإنقاذ كبريائه التي شعر أنها على وشك السقوط .. سحب الخيط ببطء شديد إلى أن بلغ نهايته ولم يجد فيه شيء .. رفع الصنارة من جديد واعد الطعم واستجمع طاقته ثم قذفها بكل قوته إلى عمق البحر ومال معها إلى أن استقرت بالأعماق ثم عاد ليثبتها بالقاعدة الحديدية وجلس على كرسيه يرتشف ما تبقى من الشاي واضعا رجل على الأخرى يفكر بما سيجلبه له الحظ وعند سماع أذان المغرب نهض إلى السيارة وأخرج سجادة فرشها على الرمل واتجه نحو القبلة ليصلي كانت آخر نظراته في الصنارة والخيط قبل أن يتجه للقبلة وبعد أن سلم "التسليمة" الأولى متجها إلى اليمين توقّف برهة ينظر إلى الصنارة والخيط ليلفت بعدها إلى اليسار للتسليمة الثانية .. كان كما يبدو شغوفا بما تحمله له الصنارة والخيط من أخبار فكل شيئا معلق بهما ..ربما لم يقرأ أية واحدة أثناء صلاته بل كان خلالها يُخاطب الله أن يحقق أحلامه التي تقزّمت بفعل العمر إلى أن أصبحت سمكة واحدة تكفي لإشباع غروره وإنقاذ كبريائه .. سمكة واحدة هي كل أحلامه التي يتطلع إليها حتى وإن لم تكن صالحة للأكل كان يريدها إن تترنح أمامه وتلفظ آخر أنفاسها بين يديه لتعيد له الثقة بنفسه وقدراته ليعيش على نشوتها عاما آخر بل حتى أسبوعا أو يوما لا مشكلة لديه من هذه الناحية كل يتمناه أن يموت بنشوة الانتصار أي انتصار ولو انتصارا بسيط لا يكاد يذكر .. بعد أن جلس لبضع دقائق يسبَّح وعيناه ملتصقتان بالصنارة والخيط رفع سجادته وعاد إلى كرسيه ينتظر كالعادة! بينما كان مستغرقا يفكّر بما يحملهُ له الخيط والصنارة من أخبار وعيناه مثبتتان باتجاههما قطعت عنه الرؤية امرأة عند مرورها بينه وبين الخيط .. امرأة شابة ممشوقة متناسقة الجسد لها شفتان متكورتان كوردة يمتطيها أنفٌ رشيق ويبدو على جانبيه رمشين كثيفين يرفرفان كجناحي فراشة وفوقهما حاجبان مقوسان بعناية وكأنهما من صنع نحاتٌ فائق البراعة والإبداع .. بقوامها الممشوق المنتصب على فردتي حذاء لها كعبان مغروسان بالرمل كخناجر، وقفت لبرهة تنظر بشفقةٍ إلى الرجل الذي تعتقده لا يفكّر بالنساء أبدا بل يفكّر بما تبقى له من العمر .. حينها شعر الرجل بنشوةٍ وأخذ يرتّب شعره الأبيض، مبتسم ينظر إليها وكأنه شابٌ لم يتجاوز العشرين من العمر ظنا منه أنها قد أعجبت به لكنّها صدمته بتجاهلها لتلك النظرات وابتسامتها الساخرة التي قضت على كل آماله بالحياة ليلملم صنارته وأشيائه عائدا أدراجه خالي الوفاض منكسرا يحدّث نفسه "بإمكانك إن تقاوم وتصمد أمام أي شيء لو كلفك ذلك إن تقاوم العمر بأكمله دون انكسار إلا نظرات امرأة ساخرة يمكنها إن تهزمك بلحظة واحدة" #مقطع_من_يومياتي