كتب : عبدالله ناصر ناجي واقعة حقيقية .. لم تكن من طيف الخيال .. فلقد جرتني ذكريات العمر لسنوات الطفولة لفترة نهاية عقد الخمسينات .. وبالتحديد في العام 1958م كنت حينها أدرس في السنة الثالثة ابتدائي في مدرسة الحصن .. بيافع بني قاصد .. أي يافع السفلى التي كانت تمتد من منطقة حبيل برق ، باتيس ، المصانع ، اللكيدة ، كبث ، امجبلة ، منطقتي جبل لحبوش والجبلين ، حلمة ، الحصن، جعار ، الرميلة ، الرواء ، منطقة المخزن ، عرشان ، خنفر و محطة القطار في المحراق شمال المخزن الحد الفاصل بين الفضلي واليافعي. يومها عاد نائب السلطنة الثائر الأمير محمد بن عيدروس من بريطانيا ضمن الوفد السلاطيني الذي ضم سلطان الفضلي ..وسلطان لحج .. وسلطان العوالق السفلى أحور وهي مناطق زراعة القطن طويل التيلة .. حيث أتسم الأمير اليافعي بنضوج مبكر لحركة القوميين العرب بعد أن زار الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة وهو في طريقه من بريطانيا إلى عدن .. جاء يحمل المدخل التحريضي للمزارعين وكان هم السواد الأعظم في سكان سلطنات زراعة القطن من ضمنها سلطنة يافع بني قاصد .. وجاء تحريضه للمزارعين بعدم بيع قطنهم لبريطانيا بالأسعار التي فرضتها بريطانيا لصالح تجارتها وتشغيل مصانعها .. حيث كانت تشتري الرطل القطن بأقل من شلن وتبيعه لتجارها بأسعار تفوق الدولار حينها. وتجمع أهالي منطقة يافع بني قاصد من كل مواقع زراعة القطن فيها .. وبالتحديد كان بعد صلاة العصر في منطقة (المشتبح) وهي مدخل منطقة الحصن حيث نزل الأمير الشاب من سيارته (اللاندروفر) حبة مكشوفة بدون طربال و القى خطاباً تحريضياً ضد الاستعمار البريطاني واستغلاله لثروات الوطن الجنوب العربي .. وفي مقدمته شراء القطن من المزارعين بأسعار رخيصة وتعالت الأصوات بالهتافات ..يعيش نائب السلطنة ..يعيش جمال عبد الناصر وتوجه الجمع من الحضور إلى مقر سكن نائب السلطنة بالحصن في حيد المنقاش كان يسكن على قمته هو وأبوه .. لازالت قصورهما شاهدة عيان حتى اليوم .. وكانت الناس تجري وتطلع الجبل وتتجمع أمام قصر النائب بينما كنا نحن الصغار أبناء القرية نطلع الجبل مع المزارعين .. نسير ونسقط .. وشبعنا مساقط حتى وصلنا نهتف ونصيح مع المزارعين يعيش النائب .. يعيش جمال عبد الناصر.. وكانت الطائرة البريطانية تطير فوق المدينة وعلى قصر النائب وترمي أوراق منشورات تحذر النائب من تجميع الناس وبعدم تدخله بين بريطانيا والمزارعين وان المنشورات إنذار سيتم بعدها ضرب المنطقة بالقنابل والصواريخ من الطائرة الحربية (هوكر هنتر). فألقى النائب خطاباً حماسياً في المزارعين تهتف بأننا لن نخاف من طائرات بريطانيا واننا لن نسلم حقنا ولن نستسلم .. ومن كان يقول سنعطي القطن للجمال والأبقار تأكله ولا تشله بريطانيا بلاش .. ويقولون سنعطيه مصر .. سنعطيه جمال عبد الناصر .. ومن على منصة الاحتفال أعتلى المنصة الأستاذ الشهيد صالح العاقل سبيع القى قصيدة ثورية .. صفقت له الجماهير .. يعيش بن العاقل يعيش .. ثم أعتلى المنصة الأستاذ القدير عوض عبدالله
العرشاني ابن الحصن ومعلمي في المدرسة الابتدائية قال قصيدة عصماء ألهبت المشاعر مما جعل النائب الثائر يحس بمكانته بين الجماهير وحفاظاً على المنطقة أعلن لسلامة المنطقة وناسها جميعاً بأنه سيغادر المنطقة إلى يافع الحيد ويظل التواصل مفتوحاً والهدف سائراً للنضال ضد التواجد الاستعماري وتحرير الأرض من الاستعمار وإعلان الكفاح المسلح ضد بريطانيا ومساعدة جمهورية مصر معنا ووقوف الرئيس جمال عبد الناصر إلى جانب قضيتنا حتى الاستقلال وطرد الاستعمار . وركب سيارته اللاندروفر وكان معه من المنطقة الأستاذ عوض العرشاني والقائد توج بن عقيل و أركان المنطقة عبدالله البير من الرواء .. وتوجهوا إلى يافع والطائرة تحوم عليهم وفي اليوم الثاني تابعتهم الطائرة وضربت بحمولتها عليهم في حبيل برق ولم تصب أحد ثم توجهت إلى رصد القارة لضرب بيوت أهل عفيف فيها وتوالت ضرباتها حتى أنتقل الثائر الأمير إلى شمال الوطن أيام الإمام ثم إلى القاهرة رافقه فيها الأستاذ العرشاني الذي بقى في القاهرة حتى اليوم .. والتحق بالدراسة العليا .. وله برنامج إذاعي من صوت العرب في القاهرة .. باسم صوت الجنوب وله من الإصدارات السياسية والصحفية..لم يزر الحصن الا بعد الوحدة ليزور الوالدة والأخوان .. وقد كنت الأسعد في أهلي بزياراتي المتكررة إلى القاهرة كنت أزور أستاذي كل زيارة للقاهرة .. فلك الصحة والعافية يا أستاذي القدير .. لا ننسى لهيب قصائدك الثورية و أشعارك التي تغنى بها المرحوم بإذن الله الفنان أحمد بن أحمد قاسم ، وفنان اليمن الكبير محمد محسن عطروش الاسم الذي لا ينسى حاضراً وغائباً. وفي سياق الذكريات لفترة أبان حكم نظام السلطنة لفترة الأربعينات والخمسينات والستينات كانت سنوات رخاء وأمن واستقرار لم تشهد له المنطقة مثيل ففي الجانب الزراعي شهدت المنطقة شق القنوات الزراعية للري وإقامة الجسور التحويلية لسير المياه وساد نظام ري يلتزم به الجميع محافظين على كل قطرة ماء لا تذهب هدراً ولا تسبب المياه عطالات وخرابات في أراضي الغير وهناك فريق قوي من بين المزارعين يعملون في تسيير المياه الموسمية التي كانت تسيل على مدار السنة ودائماً والأرض خضراء وخيرها باسط صيفاً وشتاءاً وازدهرت المنطقة من مشروع التكافل الاجتماعي حيث كان يتم قطع سنت على كل رطل من قيمة قطن المزارعين ليذهب إلى ميزانية التعليم .. فبنيت المدارس ووفر لها الأثاث ووفرت لأبناء المزارعين جزمة المدرسة وبدلة وحقيبة مدرسة وكل الكتب والدفاتر للتعليم في كل مراحل التعليم وحتى إنهاء المرحلة المتوسطة .. وشجعت التعليم المختلط .. وبنت الوحدات الصحية في كل القرى ومستشفى مركزي في مدينة جعار قبل مستشفى المخزن الذي بنته بريطانيا .. وشقت السلطنة الطرقات وعبدت أول طريق مسفلت في منطقة يافع كان من مدينة الحصن وحتى مستشفى المخزن . كما تم إدخال نظام الكهرباء لمنازل المواطنين لازال موقع محطة للكهرباء حتى اليوم .. وأدخلت شبكة مياه الشرب ومدت البيبات لشرب المياه النقية وتم ربطها للمدارس والمساجد والأندية الرياضية وبنيت مراكز أسواق لبيع الخضار والفاكهة واللحوم وأسواق خاصة لبيع الأسماك ومراكز لبيع الماشية .. وانتشر تنظيف عمال النظافة في المدن والقرى وكذا إقامة المعاصر لعصر زيت السمسم ومطاحن الحبوب . و أشتهرت مدينة جعار كحق مشهود من قبل الجميع بنظافة مأكولاتها في المطاعم ونظافة المدينة الذي لم نعد نراه اليوم ونتكلم عنه .. وبنيت المجمعات الحكومية لسكرتارية دوائر الحكومة والمحاكم ومراكز للأمن وتنظيم حركة المرور أصبحت في مهب الذكريات .. زرت قريتي فذهبت إلى الجامع الكبير المشهور ببيره وماءه العذب ومساحته الواسعة وفيه التقيت بإمام المسجد ذكرني بذكريات عصرت قلبي ألماً أننا نسير بلا مستقبل وبلا هدف وكان قد عاد من العراق لزيارة علاجية انه الإمام الحاج رشاد بن عبدالله العطوي .. المغفور له بإذن الله .. وحسب العادة خرجنا من المسجد لنجلس جلسة العصر المعتادة نشرب فيها القهوة .. فقال أنتوا عادكم كنتوا جهال شي تذكروا زمن نائب السلطنة الأمير محمد بن عيدروس ؟ قلت له أيش ذكرك .. قال آح يا عبدالله على ذاك الوقت كنا أكلنا وشربنا من الأرض لا نشتري من السوق إلا الزنجبيل والسكر والشاهي .. وإلا كل معيشتنا من إنتاج الأرض لبن وسمن وسليط وعسل وكل أنواع الحبوب من داخل الأرض وعلى مدار السنة !!! قلت له شي كنت موظف .. قال نعم مع نائب السلطنة الله يرحمه ويسكنه الجنة .. ثم ضحك و حسيت انه يريد أن يقول شيئاً .. قال مرة كنت محتاج إلى مئة شلن سلف فقلت باروح إلى النائب محمد عيدروس بايعطيني ما بايقدر يقلي ماشي معي.. ورحت ورحب بي وسكب لي القهوة بيده وقال أهلا وسهلاً خطوة عزيزة .. قلت له والله جيتك ما الليلة .. قال مرحبا يابن الحاج .. قلت له محتاج مئة شلن سلف واخصمها من مشاهرتي .. قال لي.. كم نعطيك مشاهرة .. قلت له ثلاثين شلن !!! قال لكنك تحصل حب وجلجل من حق بيت المال والسلطان ما با يسخى بك .. تدخلت وقلت له أيش كنت تشتغل مع السلطان ؟ قال مجمع ضرائب بيت المال من المزارعين .. ما حد يقدر يصرف شي منها إلا بأمر السلطان.. قال يا رشاد لما تشتي مني مئة شلن منين جيب لك مئة ؟ قال قلت له من مشاهرتك .. قال منشان أعطيك مئة شلن أول روح دور عشرة شلن سلف وبعدين جيت .. قال قلت له ليش ؟ قال منشان أطرحها فوق مرتبي ويكون كله بكله مئة شلن وأنا ئائب السلطنة راتبي تسعين شلن .. قال له ولا عاد لي كلمة .. نائب سلطنة بتسعين شلن قال لي وانته مجمع املاك السلطنة بثلاثين شلن كيف تشوف ؟ قلت ولا عاد لي كلمة !!! قال منهوه بالله عليك يذكر الفلوس وخير الله باسط ملا البيوت نوكل ونشرب من فضل الله لا نحمل هم ولا نقول منين بانجيب . قلت له تسعين شلن أيش باتجيب اليوم .. قال لي أصبر قليل .. عادك ما شفت من الجمل إلا أذونه ماشي باتجيب لك حبتين بيض !!! وبانتذاكر .. وجينا عليها ياحاج رشاد كثرت الفلوس .. وأكلها الغلاء وعدمناها كلها .. نشقى للمفسدين الذين انتشروا في الأرض وعبروا على لخضر واليابس .