منذ آلاف السنين استخدم الكهنة والدجالون الظواهر والكوارث الطبيعية لمصالحهم الخاصة وبسط نفوذهم. كانوا يدركون مواعيد كسوف القمر، لذا يخبرون الناس الجاهلين بها، مدَّعين أنها إشارةٌ لغضب إلهي، يزعمون أن لديهم القدرة السحرية والشفاعة الربانية لإعادة القمر المنفلق إلى وضعه الطبيعي. أمام هذا النفوذ الخارق المزيف تزداد مكانتهم داخل مجتمعاتهم، ويحصلون على أجمل النساء، وألذِّ الخراف التي تذبح لهم، بعد أن ينقذوا قبيلتهم من المأساة المروعة. تطور العقل البشري وأدرك الناس أن لا بشر قادر على شقِّ القمر أو إسقاط المطر، ولكن الكهنة لم يتنازلوا بسهولة عن هذه المكانة بالمجان. إذا كانوا غير قادرين على تحريك النجوم فلديهم وحدهم التفسير الخاص لحدوث الظواهر الطبيعية والكوارث المدمرة غير التفسير العلمي المبرهن عليه بالتجربة. فالأعاصير والبراكين بالنسبة لهم هي عبارة عن غضب إلهي يصيب الضالين والمنحرفين ورسائل تهديد وعيد هم فقط من يفكُّ شفرتها. وعلى الناس المرعوبين من هول هذه الكوارث أن ينصاعوا لرؤيتهم وعقديتهم الخاصة. يتكرر هذا مع كل كارثة طبيعية تعصف بالبشرية، كما يحدث هذه الأيام مع إعصارَيْ هارفي وإيرما اللذين يضربان الولاياتالمتحدة الأميركية. فقد سمعنا تفسيرات مريضة عن سبب هذه المآسي، التي تكتسح البشر جميعاً ولا تحدد بين أعمار وأديان وأعراق. وبدل أن نظهر مشاعر التعاطف والتآخي الإنساني الخالص يظهر دعاة الكراهية ليقولوا إن ما حدث هو عقاب جماعي، لا يستثنى منه حتى الرضع والأيتام. وعلى الرغم من أنهم يدعون معرفتهم بالسبب خلف هذه الكوارث وبأنها عقوبات ربانية فإنهم لا يجيبون عن أسئلة بسيطة، مثل: لماذا يشمل الأطفال بالعقاب المزعوم وهم لم يفعلوا شيئاً؟ ولماذا تقع هذه الكوارث على من يطابقونهم في الدين والمذهب؟ ولماذا تتكرر الكوارث الطبيعية في أماكن محددة دون غيرها؟ وفِي كل الحالات لن تحصل على إجابات، لأن العقل معطل. قبل سنوات ضرب زلزال قرية صغيرة وادعة قتل بعض أهلها، وفي الوقت الذي كان أفرادها يدفنون موتاهم، قال أحد المتطرفين إن سبب استهدافهم - تحديداً - هو كثرة ذنوبهم! بحسب تصوره الطفولي للكون وقوانينه المطاطية فإن الزلزال تجنب كل المدن الصاخبة حول العالم، التي لا يتوقف فيها أهلها عن اللهو والسهر، ليضرب قرية ينام ساكنوها المساكين مع غروب الشمس. مع تطور العلم عرفنا مسببات حدوث الظواهر الطبيعية، ولم يعد هناك حاجة لإرجاعها لتفسيرات وتعليلات غامضة. بتنا نعرف سبب الأعاصير والهزات الأرضية والبراكين وموعد بداياتها ونهايتها. مع تطور البشرية انقشع التصور القديم للعالم واختفت معه العفاريت والأرواح الشريرة والمؤامرات الغامضة، وحل محله التصور الحديث العقلاني للعالم، الذي خلَّصنا من الأمراض والأوبئة التي كانت تُرَى في السابق على أنها لعنات، حتى لو أصابت الأطفال. مع هذا التصور الحديث للكون أدركت البشرية أنها مشتركة في مصير واحد، وأفضل طريقة لمواجهة هذه الكوارث الرهيبة ليس تحويلها كمناسبات للتشفي وبثِّ الكراهية والتفرقة، بل فرصة للتلاحم النابع من الشعور الإنساني والأخلاقي العميق والمتجاوز للأديان والطوائف والهويات. هل سيكف دعاة الكراهية عن ترديد مثل هذه التفسيرات المفتقدة لأبسط معاني التعاطف؟ بالطبع لا.. هذه الكوارث فرصة لنشر أفكارهم التحريضية - مستغلين - رعب الناس، وبذات الوقت أيضا التأكيد على مكانتهم وحضورهم الاجتماعي، ولهذا يقاومون التفسير العلمي الحديث، الذي يجردهم من سلاحهم الأخير في استخدام الكوارث الطبيعية لخدمة أيديولوجياتهم المتشددة ونفوذهم الشخصي. كهنة القرون الغابرة يهدفون لملء بطونهم وكهنة العصور الحديثة يهدفون لملء جيوبهم وزيادة أتباعهم حتى في توتير. * نقلا عن " العربية.نت"