فجأة ,وجد نفسه الجندي وحيداً . قذيفة من مكان ما , دكت مخبأهم وقتلت رفاقه . الدماء التي تلطخ وجهه وبدلته العسكرية , كانت دماء رفاقه . الجبال وعرة وقاسية . يخرج من جيبه صورة ابنته ويبكي . أمس فقط ودع ابنته , واليوم رفاقه ودعوه. حمل سلاحه متأهباً ومشى . الليل يزحف ببطء .. وقدماه أيضاً تخطوان ببطء . التعب يشل روحه سريعاً . بدا تائهاُ في المكان . تعمد أن يمشي عكس صوت الانفجارات . لكنه اكتشف أن الصوت يحيط به من كل مكان. يسند جذعه على جذع شجرة بدت أيضاً مرتعبة. - قف !لا تتحرك! تجمد الجندي في مكانه . فكر أن يدير رأسه قليلاً .. إلا أن صوتاً آخر جاءه : - لا تُدر رأسك وإلا فجرته . عادت مخيلة الجندي إلى رأس رفيقه حسين . فجرته شظية القذيفة .. ومحت رأسه. - أنا مستسلم . تقدم رجلان ملثمان منه . انتزع أحدهما سلاحه . طلب منه التقدم . اختفوا في كهف قريب من الشجرة المرتعبة . نظر إليهم الجندي . رجلان بملابس مدنية . قال وهو ينظر إلى فوهتي بندقيتهما : - هل ستقتلاني؟ . - ولماذا تعتقد أننا سوف نقتلك ؟ ويضيف الرجل الأخر : - أنت أسير الآن . - انتم أيضا تقتلون الأسير! - لا .. إننا لا نقتل أخانا الأسير . بدت كلمة الرجل مطمئنة للجندي . ثم سأله احدهم : - وأنت كم قتلت منا ؟ - لم اقتل أحداً . - لكنك تأتي إلينا لتحاربنا ؟! . - أنا جندي أنفذ الأوامر . - لتقتل إخوانك . - أنتم متمردون . - هذه كلمة أنتم صنعتموها .. حتى تقاتلونا . - لستُ راضياً عن هذه الحرب . - لكنك هنا .. تحمل بندقيتك .. لكي تحاربنا . - لم أطلق رصاصة واحدة. يشم أحدهم فوهة البندقية وينظر لزميله. ثم يهز رأسه : - لكن الدماء تملأ ثيابك ! - إنها دماء أصدقائي .. قتلتهم قذيفتكم . - لقد قتلهم غباؤكم . أحد الرجلين غادر الكهف . قال إنه سيعود بعد أيام ومعه الطعام والماء . - ما اسمك ؟ - عباس .. وأنت ؟ - الحزمي .. متزوج ؟ - نعم .. ولدي بنت . - الطعام والماء قليل جدا .. سوف نقتسمهما معا . تذكر أن ابنته (باسمه ) دست في بنطلونه قطعة من " الكدم ". قالت وهي تنفجر بالبكاء : - عد سالماً يا أبي .. إن جاءت لك الفرصة, أهرب . دس يده في بنطلونه وأخرج الكدم ووضعها أمام الحزمي , الذي بادله بابتسامة . - كدمه هذا غداء الجندي المحب للقتل . - لا أحب القتل .. ولست راضيا عن هذه الحرب . - ولمَ أتيت إذاً ؟! كان عليك أن ترفض . - أنا جندي .. - جندي ! جندي تنفذ الأوامر المرسلة لك دون أن تناقشها . - لست جنديا فقط .. أنا أيضا إنسان .. انظر إلى سلاحي . مليء بالرصاص .. لم أطلق رصاصة واحده . - قل لم تأتك الفرصة لكي ... - لا تكمل .. كان الطعام بارداً .. وتلُفُ الكهف برودة شديدة .. قطعة خبز وقطعة جبن للجندي . ومثلهما للحزمي . " لقد طلبت مني ابنتي أن أهرب إن جاءتني لي الفرصة الهرب .. كنا في السيارة . تأخذنا إلى جبهة القتال .. كنا ثمانية .مزقت قذيفة رفاقي .. وبقيت أنا .. حاولت الهرب .. وكلما مشيت بعيداً عن القتال ,اكتشف أني اقترب منهم. شاركت في حروب كثيرة .. والسخرية أنها حروب أهلية .. خسرناها كلها . ما فائدة الحرب تخوضها لكي تخسرها ؟! لم أصب بأي طلقة .. ولا أدري إن كانت طلقاتي قد أصابت أو قتلت إنساناً ما. اكتشفت متأخرا .. أننا أمة تحب الحروب لكي تعيش . أنا استلم معاشي لكي أخوض الحرب .. فكيف إذاً أكون جندياً إذا لم أخض حرباً . لأول مرة أشعر بالخوف.. لأول مرة أصبح أسيراً .. لم أصب يوما بخدش من شطية .. لكن اليوم كأنما مئات الطلقات تثقب جسدي وآلاف الشظايا تمزق جسدي . الحرب لن تنتهي , لأنه مكاسبها كثيرة عند بعضهم .. نحن فقط نخسر .. ينهض الشاب فجأة .. ويصيح : - الحرب أيها الجندي سوف تنتهي هنا .. خذ سلاحك .. وارحل . يمد الحزمي للجندي بندقيته... وهو يقف منتصباً كالعمود . يحمل الجندي سلاحه , ثم يصافح الحزمي ويحضنه بشدة. الحزمي : - انتظر سأعطيك قليلاً من الخبز والماء . ويستدير الحزمي .. ويثقب الجندي رأس الحزمي برصاصة . - الحرب لم تبدأ حتى تنتهي . ويغادر الجندي الكهف .. ورائحة البارود تفوح من رأس الحزمي .