رغم أن البعض ذهب للحديث عن شيء ما مختلف أمكن إحرازه في اجتماع أصدقاء اليمن الأخير (نيويورك 24 سبتمبر)، مقارنة بنتائج الاجتماعات واللقاءات السابقة التي مهدت له منذ الاجتماع رفيع المستوى في لندن (يناير 2010)..إلا أن النظرة المتمعنة قليلاً تكشف لنا أن الخلاصة بتفرعاتها المختلفة لم تنتقل إلى ما هو أهم: حلحلة تعقيدات الوضع الحالي للبلاد. مع أن المؤتمر تطرق إلى مجموعة بسيطة من المهدئات أملاً بتقديم المعالجة اللازمة لاحقاً. بل أكثر من ذلك، يمكن التأكيد أن العملية ستدخل مرحلة أكثر تعقيداً إن لم تحرز بلادنا أي تقدم ملموس وتلتزم ب"الروشتة" التي حددت لها: تنفيذ ما طلب منها حتى مطلع السنة القادمة التي أحيل إليها اجتماع لاحق يعقد في الرياض (فبراير القادم)، قيل أنه سيكون أكثر أهمية.
وفيما اعتبر أن هذا الاجتماع يكتسب أهمية كبيرة لأصدقاء اليمن، بحسب ما تضمنته كلمة رئيس وزراء ووزير خارجية دولة قطر الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني أثناء الاجتماع، من جهة أن الأصدقاء "مقبلون على وضع الأهداف والخطط التنفيذية لإقامة مشروعات تستهدف تعزيز السلام والأمن والاستقرار والتنمية المستدامة.."
ربما أمكننا القول: إن التقدم الحقيقي المحرز في اجتماع نيويورك انصب في أن الأصدقاء انتهوا أخيراً، وبعد مخاض تسعة أشهر من إجتماع لندن، من تشخيص الأزمة اليمنية من خلال الورقتين المقدمتين للاجتماع من فريقي العمل حول الاقتصاد والحوكمة، والعدل والأمن. إلى جانب التصور الخاص بمواجهة تحدي التطرف والإرهاب الذي قدمته بلادنا للاجتماع.
• تجاوز الإطار العام ولكن.. يفضل البعض الحديث عن أن تقدماً كبيراً أحرز في اجتماع نيويورك. إلا أن ثمة قضايا بعينها تستوجب علينا التوقف. ذلك حينما نقرر الخوض في تفاصيل مسار اجتماع نيويورك والتفتيش في النتيجة النهائية المترتبة عن اللقاء الذي لم يستمر سوى 120 دقيقة فقط، أفترض أنها مناسبة لاستعراض إجراءات ومخاضات الأشهر التسعة الماضية، في الوقت الذي أفترض فيه أن إيجاد الحلول الناجعة لعلل أكثر من عقدين منوطة بتنفيذ بقية ما جاء في "الروشتة" المهدئة، خلال ما تبقى من الأشهر الأربعة حتى اجتماع الرياض التالي (فبراير القادم).
لقد تركز ما يمكن أن يعتبر نجاحاً، في الانتقال من الإطار العام للتشخيص إلى الحديث – مجرد الحديث الأولي- عن الآليات المستقبلية لعملية الإنقاذ. أو بالأحرى: ما يمكن أن يقدمه الأصدقاء لإنقاذنا في المستقبل. وعلى ضوء ما قدم في الاجتماع، حدد أصدقاؤنا إجراءات وشروطاً عملية يتوجب علينا الالتزام بها حتى نحظى بالعلاج الناجع. وكان من المهم بالنسبة لهم ولنا الإشارة إلى الأدوية التي يمكنهم تقديمها في مختلف الجوانب والعلل، ولكن تحت شروط محددة حتى مطلع العام القادم..
إن مثل ذلك يجعلنا نتوخى الحذر حين نتحدث عن نجاحات عظيمة. إذ ما زلنا في طور التحضير للعلاج. وإلى مثل هذا لفت وزير الخارجية الكويتي محمد الصباح، في تصريحات أدلى بها عقب الاجتماع حين أكد لصحيفة "الشرق الأوسط" أن"اجتماع نيويورك هو اجتماع تحضيري لاجتماع الرياض وأن اجتماع الرياض هو المهم لأنه سيكون (ترجمة) لما تم اتخاذه من قرارات في مؤتمر لندن للمانحين، وسيكون في اجتماع الرياض مساءلة ومجادلة حقيقية في مكان الخلل. لذلك فإننا في اجتماع لندن أعلنّا، وفي اجتماع الرياض سنحاسب".
على مثل هذا النسق سارت معظم الاجتماعات واللقاءات السابقة حول ما تستلزمة عملية الإنقاذ طويلة الأمد لليمن. من اجتماع لندن (يناير الماضي)، إلى اجتماع الرياض (فبراير الماضي)، إلى اجتماع أبو ظبي (مارس الماضي)، وحتى اجتماع نيويورك (الأخير)، ظل الحديث يدور حول أن الاجتماع التالي سيكون حاسماً. الجديد هنا أن تصريحات وزير الخارجية الكويتي المبينة أعلاه كانت أشد مواجهة حين تحدث عن ضرورة "المحاسبة" القادمة..
تلك هي لهجة من يرى أن يده هي العليا. وأن محاولاته السابقة في الإنقاذ باءت بالفشل، وعليه هذه المرة أن يكون أكثر حرصاً على أن تؤتي ثمارها بشكل مستدام: أن تصرف في المجالات والمصارف التي حددت لها. إن هذا يعكس وجود خلل بنيوي كبير، أفترض معه التشكيك بمصارف تلك المساعدات.. وعليه، لفت الوزير الكويتي إلى أن اجتماع نيويورك "ليس نصرة للحكومة اليمنية، بل للشعب اليمني". وقال موضحاً "عندما نقول أصدقاء اليمن نقصد كل اليمن، ولا يمكن أن نقف في خندق ضد آخر".
• "الأموال":هذا ما تريده اليمن، ولكن"أين يذهب" هذا ما يخشاه الأصدقاء دعونا هنا نعتقد أن الهدف الذي تنشده بلادنا من كل ذلك هو: أنها وإلى جانب محاولتها الحصول على مساعدات إضافية، فإنها تسعى -في المقام الأول- إلى استعادة العمل بوعود دولية سابقة، تعود إلى ما قبل خمسة أعوام إلا بضعة أشهر.
ففي مؤتمر المانحين حول اليمن الذي عقد في لندن (يناير 2006)، وعد المانحون بتقديم أكثر من خمسة مليارات دولار (تحديداً 5.5 مليار دولار). منها (70 في المائة) من دول مجلس التعاون الخليجي إلا أن ما صرف من تلك الوعود لم يتجاوز نحو ال (15 في المائة) فقط. بحسب ما تضمنته تصريحات وزير الخارجية الكويتي نفسه.
لكن الوزير الكويتي يؤكد بأن دول المجلس أوفت بهذه الالتزامات ورصدت مبلغ 3.7 مليار دولار لليمن، غير أنها لم تصرف منها سوى (1.8 مليار دولار) فقط. أما السبب، يرجعه الوزير بكل صراحة إلى "القدرة المحدودة على الاستيعاب في الاقتصاد اليمني"، وهو ما اعتبرها "مشكلة أساسية". وبشكل أكثر تفصيلاً يضيف "لا يمكننا أن نبني 15 مستشفى أو مدرسة في الوقت نفسه، كذلك نحتاج إلى توسيع طرق ومحطات كهرباء..".
وتأسيساً على ما سبق، يبدو أن أحد أهم المعضلات التي ركز عليها اجتماع نيويورك هي مشكلة الفساد الذي تعاني منه البلاد. وهو الأمر الذي أكده بوضوح الوزير البريطاني لشؤون الشرق الأوسط أليستر بيرت، الذي قال ل"الشرق الأوسط"، هو الآخر: "هناك مشكلة فساد، لكن ليست المشكلة الوحيدة متعلقة بصرف الأموال. فهناك عامل آخر وهو قدرة الحكومة ومختلف الوزارات على العمل معا للتأكد من أن المال يصرف بطريقة مناسبة".
ولطالما حاولت بلادنا استعادة ثقة المانحين. ذلك منذ أوقف هؤلاء العمل بالتزاماتهم ووعودهم التي قدموها في مؤتمر لندن (2006)، وبدؤوا بكل صراحة بتوجيه تهم الفساد، وضعف مقدرات الحكومة، لتبيرير قرارهم الجماعي بإيقاف المساعدات. وهاهو وزير خارجيتنا أبو بكر القربي يجدد المحاولة مرة أخرى. وجاهدا كما هي عادته يحاول الرد على تلك التهم. ففي تصريحاته ل"الشرق الأوسط" -في السياق ذاته– نفى وجود مشكلة فساد في الحكومة اليمنية تعوق صرف الأموال التي تعهد بها "المانحون" سابقاً، [أو ما سيجود به "أصدقاء اليمن" لاحقاً]. وقال للصحيفة على هامش اللقاء الوزاري الأخير في"نيويورك": "كان موضوع الفساد يطرح كقضية قبل 5 أو 6 سنوات، لكن اليوم هناك هيئة لمكافحة الفساد، وقد تمت الإشادة بهذه الجهود خلال الاجتماع.. ليست هناك مشكلة في قضية الفساد اليوم".
لكن هؤلاء، من خلال تجاربهم السابقة، إلى جانب ما يستقونه من أعينهم في البلاد، وتقارير منظماتهم الدولية الموثوقة، باتوا أكثر حرصاً على مصارف أموالهم (التي هم بأمس الحاجة إليها مع ما ساقته اليهم الأزمة الاقتصادية الدولية من متاعب كبيرة في اقتصادياتهم).
وعليه: فإن الوزير البريطاني الذي نوه إلى "أن الأموال التي تم رصدها لليمن سيتم صرفها، لكن في الوقت والمكان المناسب"، كان يجب عليه أن يستدرك للتوضيح: "الأمر لا يتعلق فقط بصرف المال لصرفه، فتحديد أين يجب صرف الأموال يأخذ وقتا".
إن تلك التصريحات التي أطلقها مسئولون رفيعون في مجموعة الأصدقاء على هامش المؤتمر الدولي الأخير في نيويورك، حول الفساد والآليات والإجراءات القادمة المطلوبة من بلادنا، وما يمكن أن يترتب عليها من قبلهم.. الواضح أنها لم تكن مجرد آراء شخصية، بقدر كونها أجزاء مهمة وأساسية لما عقد عليه العزم جماعياً، واتفق بشأنه ليدخل ضمن توصيات البيان الختامي للمؤتمر.
وقد أشار البيان إلى تلك الأجزاء بشكل واضح. ذلك حين لفت إلى "أن الفساد أدى إلى تقويض التنمية والاستثمارات، وساهم في حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي في اليمن". وناشد الأصدقاء الحكومة اليمنية "التعجيل في المقاضاة والمحاكمة في قضايا الفساد".
خلاصة الأمر: أن المشكلة التي تعاني منها بلادنا في تدهور اقتصادها وبلوغه مرحلة متقدمة من العجز الخطر، وربما غير المحتمل حتى أواخر هذا العام كأقصى تقدير (بحسب ما يعتقده اقتصاديون يمنيون كانوا تحدثوا في أوقات سابقة وكثيرة عن خطورة استمرار عجز الميزانية، وقدروا أن مواصلة استمراره سيجعل الحكومة –عما قريب- غير قادرة على توفير رواتب الموظفين) إن هذه المشكلة ما تزال وستظل قائمة، كون ما قدمه الأصدقاء من وعود في نيويورك، لم يكن سوى "الجزرة" التي يعتمد الوصول إليها والتهامها: ضرورة التنفيذ والالتزام.
إن طريق قطف ثمار هذه الصداقة ما يزال شاقاً وطويلاً. وهو طويل جداً بالنسبة لبلاد بحاجة ماسة إلى عملية "إنعاش" سريعة. ولقد عززت تصريحات الوزير البريطاني استمراراية بقاء المشكلة لأمد قادم قد يطول كثيراً، ذلك حين أكد أنه:"سيتم تقديم عدد من الأفكار التفصيلية قبل مؤتمر الرياض الوزاري، لذا الآن لدينا قاعدة لعدم صرف المال إلا عندما نتأكد أنه يصرف في المكان المناسب". هذا في جانب الدعم المالي وإعادة صرف المنح الموعودة.
أما في الجانب الآخر. فيما يتعلق بالإجراءات المطلوبة للإنقاذ، فهي الأخرى منوطة بمدى التقدم المحرز خلال الفترة القادمة. وهي عملية قد تتجاوز بكثير الفترة المحددة لها مطلع العام القادم، ذلك فيما إذا استطاعت بلادنا القيام والالتزام بالأمور والقضايا المطلوبة منها. حيث سيبدأ الحديث بعد ذلك عن آليات وإجراءات أخرى جديدة للدعم والمساعدة، أي الحديث حول كيفية تنفيذ التزامات الأصدقاء بطريقة مناسبة تؤتي ثمارها.
وهذا ما تطرق إليه وزير الخارجية القطري في سياق كلمته في المؤتمر: "إن اجتماعنا فى لندن قد اعتبر "الاقتصاد والحكم الرشيد" إحدى أولويات "أصدقاء اليمن"، الأمر الذى يتطلب إيجاد آليات جديدة لتقديم تمويل على المدى الطويل لتلبية احتياجات اليمن التنموية، وبما يتماشى مع أولوياتها والتقدم الحاصل فى الإصلاحات الاقتصادية، حتى يكون دعم المانحين أكثر فاعلية". وقال إن المطلوب منهم –كأصدقاء- العمل "على بذل الجهود لتحديد الأولويات التى سيعمل اليمن وأصدقاؤه على تنفيذها معا، وخلق آليات فعالة، وتأسيس برامج مشتركة فى إطار هذه الصداقة، لزيادة الثقة والحماس لدى كل الاطراف اليمنية، ودعم الأمن والاستقرار فى ربوع اليمن الشقيق".
• "العصا والجزرة" مقابل مسك العصا من المنتصف إن عصا السياسات غير الواضحة، التي ظلت الحكومة تستمرئ مسكها من المنتصف، في معظم القضايا المصيرية بضمنها القضايا الأمنية والسياسية، لتخويف الدول المتضررة من السقوط الحتمي، وبالتالي تهديد مصالحهم الإقليمية بهدف جذب مساعداتهم ودعمهم المالي ربما أصبح في مقابلها اليوم تلك "الجزرة" التي ربطها المانحون في أعلى "العصا"، ليستمروا في جرجرة حكومتنا إلى نهاية الطريق التي يعتقدون أنها ستمثل خلاصاً للجميع من النفق المظلم الموعودين به..
على أن النجاح الكلي في تحقيق تلك السياسة من المفترض أن تسنده دعائم داخلية ومناخات سياسية طبيعية. وهذا ما يجب أن يعمل عليه شريك محلي قوي ومناسب، لإحداث عملية توازن سياسي مواجه لأي اختلالات، كما يعمل على إيقاف مواصلة سياسة مسك العصا من المنتصف التي قد تعمل على إعاقة عملية إعادة البناء والتشييد.
وفي هذا النسق، شجع أصدقاء اليمن في بيانهم موضوع الحوار الوطني، لافتين إلى أنه يمثل أفضل أساس لتنمية الأمن والاستقرار الدائمين. واتفق الأصدقاء على ضرورة تطوّر الحوار على وجه السرعة إلى مناقشات جادة ما بين الأطراف السياسيين الرئيسيين وغيرهم تتناول القضايا التي كانت تمثل مصدر الصراع والاختلاف في اليمن. كما اعتبر البيان أن الحوار الوطني هو أكثر المنابر فعالية في المضي في الإجراءات العاجلة اللازمة لضمان إجراء انتخابات حرة وعادلة متعددة الأحزاب في عام 2011.
• خاتمة وأمل من زاوية ما، متعلقة بالنظرة الطبيعية المجردة لسياقاتها، هذا ربما ما تبدو عليه تجليات المشكلة اليمنية، وتدخل المعنيين لحلحلتها. على أن هناك من ينظر إلى الأمر من زوايا أخرى يعتقد أنها أكثر عمقاً مما هو مكشوف ومعلن. هناك من يقول بمخططات كبرى تتعرض لها البلاد بفعل أطراف إقليمية تتوخى مصالحها، وتتعاضد معها أطراف دولية لحماية وتعزيز مصالحها هي الأخرى. قد تصل في نهاية الأمر إلى فرض حلول تقسيمية، أو ربما الوصول إلى فرض عملية التدخل الضروري. على أن القاسم المشترك بين النظرتين تأتي من ورائه الفرضية القائلة: أن السياسات التي تقاد بها البلاد هي من تصنع المناخ الأكثر ملاءمة لإمكانية القيام بذلك كله..
أياً يكن الأمر فإن الأمل سيبقى معقوداً على ما ستقوم به حكومتنا -المتهمة بالضعف والعجز والفساد وتبديد الأموال- في تنفيذ الالتزامات المطلوبة والمحددة، وإثبات قدراتها وإمكانياتها في إدارة وإنجاح عملية إعادة البناء بتعاون ودعم الأصدقاء. على أن هذا الأمر يبدأ بالضرورة باستعادة ثقة أصدقائنا بنا فيما يتعلق بتهسيل عملية ضخ الأموال التي يجب عليهم مساعدتنا بها في البناء. كما أنه يتعلق أيضاً باستعادة الثقة الداخلية فيما بيننا (الأطراف الداخلية المعنية بالبناء).
إن مثل تلك الخطوات قد تبدو نظرية وأكثر مثالية مما يتيحه الواقع السياسي وخياراته قياساً بنظرة كل طرف لما يسعى إلى التمسك به والنضال على تحقيقه بشتى الوسائل والطرق. على أنها –ومن وجهة نظر وطنية خالصة- تمثل الخطوات العملية الأكثر ملاءمة من غيرها للإنقاذ. ذلك ما ذهب إليه الوزير القطري حين أكد بالقول: "نحن نعلم أنه ليس هناك من هو أقدر على فهم الأزمة بكل أبعادها، وليس هناك من هو أقرب لتقدير مصلحة اليمن والشعب اليمنى الشقيق أكثر من أهل البلاد وقياداتها وعقلائها، وما دور الأشقاء والأصدقاء إلا مساعد ومعين ".
وهو أيضاً ما عززته تصريحات وزير الخارجية الكويتي "لا أحد يستطيع أن يحل قضايا اليمن السياسية إلا أهل اليمن نفسه، نحن نستطيع أن نبني الجسر، لكن عليهم هم أن يعبروه".