بيني وبين الأديب الجميل عبدالله سالم باوزير وشيجة عميقة شفيفة. عرفته على عتبات الفتوّة الأولى، و منذئذٍ وهو القاص الذي لا أذكر أنني قرأتُ قصة له و لم يبق منها أثر في الذاكرة والوعي. التقيته ، مصادفةً ، في المكتبة الوطنية لصاحبها أحمد سعيد حداد في الشارع العام بمدينة المكلا ، صيف 1976م. يومئذٍ عرفت أن له مجموعة قصصية عنوانها (الرمال الذهبية) وكانت أول مجموعة قصصية أقتنيها في حياتي.
و مرت الأيام و مرّت الليالي ، لكن عبدالله باوزير لم يبرح خيالي. مضينا في مدارج التحصيل والطلب ، و مالت بنا الميول نحو الأدب ، ثم اتسعت قراءاتنا وانفتحت لنا آفاق ، واشتعلت حرائق الشعر والشعراء في طرقاتنا ، لكن ( رمال ) عبدالله سالم باوزير (الذهبية) ظلت تتلألأ في كل خاطر.
لستُ أدري أهي فتنة اللقاء الأول أم هي بساطة العمق أم عمق البساطة أم تلك الروح الساخرة التي ظلت تتخطفني- رحمانيةً - في كل آن ؟. لكنني كلما قرأت قصة من قصصه منشورةً في صحيفة أو مجلة ، أو في مجموعة، كنت أجدد ، بفرح طفولي ، ذكريات اللقاء الأول في مكتبة حداد، وكان الرجل يزداد بهاءً و تألقاً. إنه يخلق من فكرة أو نكتة عابرة عملاً إبداعياً مدهشاً مبهجاً . إن لديه حسّاً عالياً بالمفارقة الواخزة انماز به وأجاده.
قرأت ( الضيف الكبير ) في ( الحكمة) - إن لم تخنّي الذاكرة- وأزعم أنني تصاممت ، بعدئذٍ ،عن سماع الهتافات الجوفاء في كل حين أجوف. وقرأت ( الحريق ) في ( 14 أكتوبر)- إن لم تخنّي الذاكرة أيضاً - فتداعت إلى مخيلتي حرائق ، منذ نيرون ، واشتعلت عواطفي بحريق (أطلال ) إبراهيم ناجي ( وإذا الفجر مطِلٌّ كالحريق ) ، وظل حريق باوزير مشتعلاً بين حرائق التاريخ والواقع.
إنه كاتبٌ قارٌّ ، لا يريم ، لا يبرح الحضور ، وإن زاحمه هيجو وكافكا وكازنتزاكي و جوركي وديستويفسكي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس والطيب صالح وحنا مينة والطاهر وطار وغائب طعمة فرمان وجبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف وصنع الله إبراهيم ... ومادام كذلك ، فكيف له أن يموت؟ّ إنه مؤلف من ورق كغيره من المؤلفين - بتعبير بارت- لكن أوراقه لا تموت ، وهل تموت ( الحذاء) و( قطع غيار للسيدات) و(الاجتماع الأول للحمير)... وكل أوراقه؟ لقد رأيته في عيون الطلاب مفاجأة رائعة عندما قدمت لهم نماذج منذ سنتين ضمن مفردات ( الأدب اليمني الحديث ) في كلية التربية . إن لذكرى اللقاء الأول جرسها العالي في الوجدان ، ولعلي سأكتب ذات يوم عن باوزير - رغم التسويفات -ما أراه خليقاً بمثله. إن مبدعاً كباوزير ليسخر في (( المكان المعتم )) الذي وُسِّدَ فيه في أكتوبر 2004م سخريته في المكان الأول الذي وُسِّدَ فيه عام 1938م ، بعد أن غسّلوه ونظّفوه . إنه يسخر- على طريقته - ممن ينتظرون رحيل أمثاله ليشققوا الجمل والعبارات لصياغة بيان نعيٍ هو نعيٌ لهم لو كانوا يشعرون! ولأنه كذلك فهو باقٍ فينا ، منذ قرون ، قروناً. لكننا أسيفون لأنه غادر هذا الكوكب وفي نفسه غصة. قامة أدبية باذخة كالأستاذ باوزير تغادر الكوكب الذي قالت كلمتها فيه ، أسبفةً يهدُّها ( توقيع ) - ليس كتوقيعات سهل بن هرون على أية حال – ممن لو مدَّ الله في أعمارهم قروناً مقرّنة ، فلن يكتبوا معشار ما كتبه أديبنا الجميل! أغمض باوزير جفنيه الإغماض الأخير وهو لا يدري أن آخر سطر أعدّه للنشر سيقرؤه محبّوه يوم الوداع بالذات. كتب في ( طفيلي القرن العشرين ) في ( الثقافية : ع (263) الصادر يوم رحيله :7/10/2004م) : (( وستموت كمداً وغيظاً ، ولكن ثِقْ من أنه سيكون أول المشيعين لجنازتك لا قدّر الله )). لكن الله - جلّت قدرته – قدّر وما شاء فعل ، ولا رادّ لأمر الله، فله الحمد من قبلُ ومن بعدُ ، على كل حال. أما نحن- قراء باوزير – الذين لا حول لنا و لا طَول ، فسنظل نقرأ (الحذاء ) ونسمع ، ونتحسس وقعها الثقيل فوق رؤوسنا بالغداة والعشيّ ، وسنظل نشهد اجتماع الحمير الأول والثاني ، والثالث ، والخامس والسابع وربما العاشر ، بعد المائة العاشرة بعد الألف السابع ، وستظل روح عبدالله سالم باوزير تنظر إلينا برفقٍ ، وحُنُوٍّ ، وسخريةٍ أيضاً ، لعلّها تستفز الكامن فينا من سخرية ، وغضب خلاق ، لنرفع (الأحذية ) ، و نكفّ عن انتظار ( ردٍّ ) لا يأتي!.