طغى على مقال المقالح النفس الإيدلوجي، وعندما نقول الإيدلوجي، لا نعني بها مجموعة تصورات متماسكة لرؤية القضايا والأمور، ولكننا نشير إلى المعنى الجزئي للإيدلوجيا الذي صاغه عالم الاجتماع الألماني البارز كارل مانهايم في كتابه الشهير «الإيدلوجيا واليوتوبيا» باعتباره، أي المعنى الجزئي للإيدلوجيا، تمويهات واعية بدرجات متفاوتة تخفي الطبيعة الحقيقة لوضع لن يكون الاعتراف بحقيقته متفقاً مع المصالح. وتتراوح التحريفات بين الأكاذيب المقصودة، والتمويهات شبه المقصوة أو غير المقصودة، وبين المحاولات المتعمدة لخداع الآخرين او خداع النفس. ويمكن استقصاء هذا النفس في عدّة مواضيع أثارها المقالح في مقاله، وهي مواضيع لم تقتصر على مجريات الواقع الراهن باعتبارها وقائع قد تحتمل تعدداً في التفسير والتاويل، ولكن امتد به الشطط حتى إلى تلك الوقائع التي أصبحت في متحف الماضي، وقد اتخذت صورة مستقرة ومعلومة.
وقبل الدخول في ذلك، أتضح لي، ومن خلال متابعتي لكتابات كثيرة، أن هناك اختلاف بيّن في النظر إلى الحزب الاشتراكي كتاريخ وحاضر، خطاب وممارسة، بين الجنوبيين والشماليين، فالجنوبيون ينطلقون في تقييمهم للحزب من واقع ممارسة نتجت عنها أخطاء قاتلة، وما زالت تنتج لحد اللحظة، بينما يقوم الشماليون (المقصودون هنا أنصار اليسار والمتعاطفون معه) بتقييم الحزب من واقع الحلم الذي وعدهم بالخلاص والتحرر والانعتاق من براثن الواقع الإقطاعي الاستعبادي. لذلك، من الواضح، أن يستمر كل طرف محلقاً بوجه نظره بعيداً عن الطرف الآخر دون أن تجمعهما أرضية مشتركة، وقد تأتي، في بعض الأحيان، بعضٌ من وجهات النظر لأحد الأطراف صادمة كلياً للطرف الآخر حتى وإن كانت خالية من أي نوايا خبيثة أو تعمد للإساءة. وبالعودة إلى مقال المقالح، يمكن تقسيم المواضيح التي أثارها على النحو التالي:
أولاً: حاول أن يصوّر «الحزب الاشتراكي» بأنه المُوجِد الأوحد لما سماه «اليمن الديمقراطي» والمتفرد بإضفاء النهج الحداثي عليه، وهذا التصور مخالف كلياً للوقائع التاريخية التي ظهر وتكوّن فيها المشروع الجنوبي. فظهور الحزب الاشتراكي بشكله المعروف يعود إلى العام 1978م، بينما جاءت الدولة والنهج الحداثي الذي اصطبغت به كنتيجة للتصورات والتأصيلات التي شاركت بوضعها كافة القوى الوطنية في الجنوب قبل الاستقلال، وكانت تقف على رأس كل منها نخباً حداثية تلقت تعليماً عالياً في الخارج، فضلاً عن الواقع المدني المتقدم لمدينة عدن.
وإذا ما أردنا أن نقيّم الفترة الزمنية التي حكم فيها الحزب الأشتراكي الجنوب، وبالنظر إلى الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها، يصعُب علينا أن نعتبره أبناً شرعياً للسياق التاريخي السابق له خصوصاً وأنه لم يظهر إلى الوجود إلا بعدما فتك بمعظم القادة التاريخيين للحركة الوطنية في الجنوب والذين كان لديهم تصورات واضحة عن المسار الذي ينبغي على الجنوب أالسير فيه، وهو مسار شذ الحزب عنه كما تشير دلالات وأحداث تاريخية عدة (ربما أبسط الأمثلة على ذلك الموقف من الوحدة).
ثانياً: يُقال أن الشكل الحديث الذي تتخذه الفكرة أهم من أصلها، بيد إن صاحبنا المقالح ما زال يسوّق الحزب الاشتراكي وكأنه ذلك الحزب الذي ما فتئ عن التنظير للحداثة والتحرر، والساعي أبداً للدفع بالمجتمع للدخول في عالم العصرنة، وإقامة قطيعة تامة مع الماضي وموروثاته ومعتقداته، وهو حديثٌ متهافتٌ يقع أسيراً لهوامات أطلالٍ قد أكل عليها الدهر وشرب أكثر مما يفتح عينيه على المآلات التي بات عليها الحزب. فلا فرق اليوم بينه وبين أي قوى تقليدية أخرى، لا في الخطاب، ولا في الممارسة.
أما فيما يخص كيانه التنظيمي والسياسي، فقد بات، وبصورةٍ مفزعةٍ تستدعي الأسى والرثاء، أشبه ب «كشك» في سوق القبائل الواسع يقوم على تأجير خدماته لكل من هب ودب. ( ما معنى ألا يكون للحزب (كمؤسسة) موقف واضح وقوي بشأن بيان علماء اليمن الأخير إذا كان ما زال فعلاً حزباً ينتمي إلى التيار الحداثي. عضو المكتب السياسي علي الصراري دعا في حوار صحفي معه أجري قبل بضعة أسابيع «أولئك الذين يجدون أنفسهم عملياً يمارسون نهجاً خارج خط الحزب عليهم أن لا يثقلوا الحزب بالإحراج. إما عليهم أن يتواءموا مع خط الحزب أو يأخذوا موقفاً واضحاً»...
في نفس الوقت، يتحدث عن التناغم (الكبير) بينهم وبين الإصلاح، ويصف التحالف معه بأنه أهم تحالف تاريخي شهدته المنطقة العربية!!.. يا سبحان الله، يعني مواقف الديلمي والزنداني والقوى الرجعية لا تثقل كاهل الحزب بالإحراج مثلما تثقله مواقف بعض الشباب المتحمسين والممتلئين بالثورية! فهل هذا هو الحزب الذي كان يزيل من على وجه الخليقة كل من يشم في ريحته ريحة قوى رجعية ؟!).
ثالثاً: ما زال المقالح يصوغ تصوراته أستناداً على المقولات والتصورات الإيدلوجية التي عملت باستمرار على تصوير الكيانات الجنوبية التقليدية السابقة لظهور دولة ما بعد الاستقلال على أنها أعتى وأقوى وأشد وأخطر قوى رجعية على مستوى العالم، وهذا تصور ساذج وسخيف إلى أبعد حد (أنا هنا لا أدافع عن هذا الكيانات، وموقفي المضاد لكل الكيانات غير المدنية واضح وجلي في كل مقالاتي).
وهذ التصور ساذج وسخيف من وجهتين، الوجهة الأولى، أن هذه الكيانات لا تملك من السلطة غير سلطة شكلية؛ لم تتجاوز في الغالب حدود الحصن المتمركزة فيه، ولا يسعفني الحيز هنا التدليل بشواهدٍ كثيرة على ذلك، لكن يمكن العودة إلى الكتابات والبحوث التاريخية العلمية التى حاولت أن تستجلي الحقيقة كما هي، وليس كما فعلت الكتابات المؤدلجة التي غلب عليها التحريف والتزييف للواقع بهدف تبرير وجودها وشرعيتها.
ومن واقع دولة السادس والعشرين من سبتمر؛ يدل التاريخ، كيف أن هذا الدولة، وفي ظل وجود قوى تقليدية ذات نفوذ حقيقي، لم تستطع أن تبرح العاصمة صنعاء، وفي أحسن الأحوال مدينتي تعز والحديدة، بينما استطاعت الجبهة القومية ان تبسط كامل نفوذها على التراب الجنوبي في لمح البصر؛ فكيف كان سيتأتى لها ذلك، وفي وقت وجيز للغاية؛ لو كانت هناك بالفعل قوى تقليدية ذات سلطة ونفوذ موجودة على الأرض؟!.. هذا الحال كان قبل أربعين عاماً، ما بالك بما آل إليه حالها اليوم!.
الوجهة الثانية، أن الأستاذ المقالح، في الوقت الذي ما زال يتحدث فيه عن الحزب الاشتراكي باعتباره منارة الحداثة، الخالي من شوائب الماضي ومخلفاته، نسى أن الحزب غدا اليوم ليس حليفاً كما يقول الأستاذ الصراري، فتلك أمنية مستحيلة المنال في وضعية أكثر أنبطاحية من أي وقتٍ مضى، وبصورة تبعث على الشفقة والتقزز، لتوجيهات وتوجهات حزب الإصلاح، وهو الحزب الذي يحوي بين طياته أشد القوى تخلفاً ورجعية وبُعداً عن روح العصر، وأكثر إعاقة، وكما أثبتت شواهد كثيرة، لمشروع الدولة الحديثة ( المشكلة أن عمنا «الشيخ» ياسين سعيد نعمان عاده كمان يطلع يتفلسف ويتحدث عن أولئك الذين لا سقف لهم، ولايستقرون على شيء، كيف أنهم، في الأخير، يستقرون في حضن الخصم الذي ثاروا عليه!!.. طيب والي يعمله هو مع الإصلاح، ماذا يمكن أن نسميه؟، لكن على قولة المصريين «الي يخاف من الشيطان يعمل فيها عبيط»!)
رابعاً (وأخيراً): يتحدث المقالح عن القاعدة وكأنها إحدى الإفرازات الطبيعية للبيئة الجنوبية، أو هي الواقع الذي سيصحو عليه الجنوب "أوتوماتيكياً" في حال لم يتصالح مع الحزب الاشتراكي. وهو كلام غريب كل الغرابة، ولا أعتقد، شخصياً، أن المقالح نفسه يؤمن بمثل هذه الهذيانات والترهات الفارغة، ربما قد قاله من باب التخويف لا أكثر .
فكما هو معلوم ومُدرك ومُثبت، أن وجود القاعدة في الجنوب ليس وجوداً بريئاً، أو قدراً نزل فجأة من السماء، بل قام النظام اليمني على مدى سنوات طويلة بخلقها واستنباتها ورعايتها، ليس فقط بتسهيل المهمة لها وإمدادها بكل ما يلزمها، ولكن أيضاً بضرب كل القوى الفاعلة والحية في المجتمع الجنوبي والتي بطبيعتها تشكل عنصر المقاومة والمجابهة ضد أي اختراقات. وقد بات الجميع يدرك في اليمن، وفي العالم، أن وجود القاعدة غير مرتبط بتاتاً بوجود الحزب الاشتراكي من عدمه، بقدر ما سيظل وجودها مرتبط ًأرتباطاً وثيقاً بالنظام الاستعماري الذي يُدار به الجنوب!
ختاماً، وإذا كان هناك من ختام لهذا المقال، فلن يكون أفضل من استحضار نقطة أثارها الدكتور ياسين سعيد نعمان في محاضرة له كانت بعنوان «القضية الجنوبية» ألقاها قبل عدة سنوات، قال فيها أن جذور القضية الجنوبية لا يعود في الأساس إلى حرب 1994، بل إلى اليوم الأول لاستقلال الجنوب عن بريطانيا.. وإذا كان هذا الزعم صحيحياً، فلا يوجد هناك اعترافاً أفضل منه بأن الحزب الاشتراكي قد عمل باستمرار على تأزيم القضية، ودفع بها مأساويتها القصوى؛ فكيف سيكون جزء من الحل اليوم من ظل على الدوام جزء من المشكلة؟!