يمضي الزمن ويقترب قطار التسوية السياسية من أهم محطاته المتمثلة في الحوار العام والشامل الذي يعلق عليه كثيرون آمال لا حدود لها لتخليص البلاد من تركة مثقلة وأحوال بائسة وضع حلول ومعالجات جذرية لقضايا شائكة وأزمات مستفحلة وصراعات حادة وإخراجها من دوامة الحروب والصراعات واللا استقرار. ويوجد من ينظر للمؤتمر من زاوية وضعه الخاص ومصالحه وتطلعاته فإن انسجم معها وصارت نتائجه في اتجاه خدمتها فسيحتلون الصفوف الأولى في المؤتمر, أما إذا أخذ مساراً آخراً فإن لهذه القوى وسائلها وأدواتها وفعلها على الأرض وبالطرق التي اعتادت عليها, وكما وهناك قوى ثالثة تشعر أن فعالية الحوار ومنذ ترتيباتها الأولى لا تلبي تطلعاتها ولا تخدم ما تحمله وتعبر عنه, وإنه قام على مرتكزات وأسس استهدفتها منذ البداية وهكذا استمر الحال ووجدت نفسها أخيراً مضطرة لإعلان مواقف عُدت سلبية من مؤتمر الحوار. ومن البديهي إن مؤتمر الحوار لن يأتي بحلول ومعالجات من السماء وكما لن تحضره وتشارك فيه وتقرر نتائجه ومخرجاته غير الأطراف والقوى المعروفه والتي شكلت في الماضي أطرافاً للحروب والصراعات ولا يستطيع أحد أن يعفيها من المسؤولية أن ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد. كما أن المؤتمر بمخرجاته محكوم بعوامل عدة وسيكون تحت تأثيرات مختلفة, لذلك من الطبيعي النظر إليه من زوايا مختلفة وتوقع لكل الاحتمالات والافتراضات. وإذا كان من حق البعض إن يفرطوا في تفاؤلهم فمن حق آخرين أيضاً أن يتشككوا وأن يمتلكوا إزاء المسألة قراءة مغايرة لما لدى المجموعة الأولى. أن التحضير لهذا الحدث السياسي الهام قد تم حتى الآن في أطر ضيقة وغرف مغلقة وبعيداً عن الرأي العام وعن القوى والأطراف المعنية به, وأنحصر التحضير في عمل اللجنة التحضيرية الفنية بينما كان الوضع يتطلب خاصة والحديث يدور عن حوار عام وشامل أن تشهد لبلد كلها والمؤسسات السياسية والإعلامية والثقافية والنخب والشرائح المؤثرة في المجتمع وأصحاب القضايا والمصالح والتطلعات حالة واسعة ومعمقة من الحوار الهادف وتبادل للآراء والتصورات والبحث في كل الخيارات وهو الأمر المغيب تماماً, حيث أن جميع هذه القوى والمؤسسات لازالت في أجواء لا علاقة لها بالحوار ومنشغلة بحالة من الصراعات والمعارك والتطاحن, ويهيأ بعضها نفسه ليس لطاولة الحوار وإنما لساحات المواجهات المسلحة والأعمال العسكرية والعنف حيث تحسم الخيارات وتوضع الحدود للمصالح والأدوار والنفوذ وتقرر التوجهات المستقبلية, وحال البلد اليوم لا يهيئها على الدخول في عملية الحوار المستهدف. ان جملة من المعطيات والشواهد تشير إلى أن الطريق المؤدية لقاعة الحوار لم تُعبد بعد حيث لازال فيها من المعوقات ما يحول دون مشاركة قوى رئيسية وبالتالي فإن الحوار لن يكون عاماً ولا شاملاً كما أطلق عليه, وتشير الدلائل أيضاً إلى أن السير المتعجل للحوار دون اكتمال عوامل ومقومات نجاحه لن تجعل منه أسماً على مسمى, بمعنى لن يكون فعالية حوارية وإنما لقاء تسويات وصفقات وتنازلات وأملاءات ومسرح لإخراج ما أملته وقررته موازين القوى ومصالح وتحالفات وتربيطات بين الأطراف دواؤواسواءً الداخلية منها أو بين بعضها والأطراف الإقليمية والدولية, وهنا تصبح وظيفة مؤتمر الحوار إضفاء الشرعية عليها وإلباسها ثوب الإجماع والتوافق. وإذا ما أخذت التطورات هذا المنحى فإن مؤتمر الحوار سيتحول إلى مناسبة يجري فيها وبشكل رسمي وتحت يافطة الإجماع إسدال الستار على مرحلة الثورة ومطالب الشعب بالتغيير لصالح هذا العنوان الفضفاض المسمى بالإجماع الوطني بكل ما يعنيه هذا التحول بالنسبة للشمال. أما على صعيد الجنوب فالمؤتمر سيعني الكثير بدأً من موضوع الوحدة بين دولتين وطبيعة حرب 94 وطرفيها ونتائجها ومصير القضية الجنوبية وما أرتبط بها من أهداف ودعوات وتطلعات, حيث يمكن وعبر المؤتمر بمرجعياته وترتيباته وإجراءاته أن يجري تذويب لهذه القضايا والأمور وغيرها في ( الخلطة ) الوطنية العامة. وقد يشهد المؤتمر حدوث مفاجئة غير سارة بالنسبة للجنوب ومنها أن تتحول قضيته إلى قضايا عدة ويتجزأ مشروعه السياسي الواحد إلى مشاريع وربما متعارضة, وهناك من عمل ويعمل وبوتائر عالية وبإمكانيات كبيرة ووسائل تأثير متعددة لأجل هذه الغاية. هناك بديهية تقول أن المقدمات تصنع النتائج وتسهم في تحديد طبيعتها, ومع التقدير والثناء لجهود اللجنة الفنية التحضيرية للحوار, والنتائج التوافقية التي توصلت إليها وتُعد مثالية ومعقولة إذ ما أخذت بالظروف القائمة والأجواء التي عملت في ظلها اللجنة والتي تمحورت أساساً على المسائل التنظيمية والإجرائية وغيرها, وعلى الرغم من أهميتها إلا أنها لا تشكل كل ما تطلبه عملية عقد المؤتمر وخروجه بنتائج تلبي تطلعات الناس في الشمال والجنوب, حيث وهناك مهمات وأمور أساسية وجوهرية ومؤثرة لم يقترب أحد منها, وتُعد مفصلية وأساسية في أنجاح المؤتمر وطبيعة نتائجه والأهم تأثيرها على التعاطي مع مخرجاته في المرحلة القادمة. كما أن الأقدام على عقد المؤتمر دون أن اكتمال ونضوج شروط وعوامل نجاحه من شأنه أن يؤدي إلى خلق تعقيدات جديدة ومزيد من التآزيم للوضع وستجد القوى المنخرطة في الحوار نفسها مضطرة وفي أجواء غير مواتية على اتخاذ إجراءات أستثنائية لإنقاذ الحوار الذي كان يعول عليه في إنقاذ البلاد. السيد جمال بن عُمر مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة المتابع عن كثب للتطورات والملم بتفاصيلها وخباياها سبق له وأن عبر أكثر من مرة على امتعاضه وتذمره جراء الكثير مما يحصل وأشار تحديداً إلى أن أي من الأطراف التي ستحضر مؤتمر الحوار لا يمتلك تصوراً لحل أي من القضايا والملفات المفترض أن يبحثها ويقرر بشأنها الحوار, خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار التعقيد الناجم عن تعدد القضايا والأطراف وتعارض الخيارات والعلاقة المعقدة القائمة حالياً بين مختلف الأطراف والمتسمة بالعداء والتنافر وانعدام الثقة, وطبيعة التداخل والتشابك الحاصلة بين الأطراف والقضايا وارتباط بعضها بأطراف خارجية وتضائل مساحة ووزن ما يمكن اعتباره جامعاً ومشتركاً لكل القوى والأطراف أن وجد. ولا ريب في أن نتائج ومخرجات مثل هذه الفعالية السياسية لا تتوقف على عدالة القضايا ومشروعية التطلعات والحقوق وإنما تقرر على ضوء موازين القوى القائم على الأرض, وتأثر فيها طبيعة ونوع القدرات والوسائل المتوفرة لدى هذا الطرف أو ذاك والتي لن يتردد عن استخدامها على طاولة الحوار لفرض إملاءاته وتصوراته وحماية مصالحه ووضعه وأن كان على حساب أطراف أخرى, وأن أي إدعاء أخر أو تصوير للمسألة على غير هذا النحو لا يصدر إلا عن جهل بالواقع وتقدير غير صائب للأمور وعن من ظلل أو من يقوم بدور تضليل الآخرين ولهذا قيل ( أن القانون لا يحمي المغفلين ). أن التمعن في أوضاع وترتيبات وإجراءات تعتبر أساسية يظهر بوضوح طبيعة الإختلالات الكبيرة التي سوف تتحول في النهاية إلى معادلات صفرية في حساب بعض الأطراف ويمكن تحديدها من الآن, ومجمل الإجراءات والأسس والضوابط الخاصة بالمؤتمر لا تشكل لوحدها ضمانة كافية بالنسبة للبعض ولا يمكن التعويل عليها لوحدها كما لا يكمن لأحد أن ينتقي منها ما يراه ملائماً له, فهي حزمة واحدة مترابطة, وأن بعض مما تضمنته وهو إيجابياً بشكل عام يمكن أن يستغل لغير صالح بعض الأطراف ويُجَير لخدمة نتائج قد تكون ضارة وغير منصفة للبعض. ويمكن لبعض بنودها البراقة ولأكثر جاذبية أن تقوم بوظيفة الطعم الذي يدفع بالضحية إلى المصيدة والخطر. ومن البديهي أن المسؤولية عن حدوث أي من هذه المخاوف والمحاذير لا تقع على اللجنة الفنية التحضيرية ولا على المؤتمر وكل المشاركين فيه وإنما يتحملها الطرف الذي أساء التقدير وأخطأ في الحساب ولا يقم بما يكفي من أعداد واستعداد وجهوزية سياسية وتنظيمية وفنية ترقى إلى مستوى أهمية الحدث والدور الذي أختاره لنفسه. * خاص لعدن الغد