قبل أن نغوص أكثر علينا أن نتساءل لماذا نعتاد التلقين في كل شيء ، من المنشأ حتى المنتهى... هل يا ترى خلقت عقولنا ليتم تلقينها؟! ينتهج بعض أرباب الأسر مبدأ التلقين إذا لم يكن التعنيف، حتى يتسلم الراية المدرس، والمربي، والمدير في مدرسة ما. حيث يتعامل بعض هؤلاء كما يتعامل الدكتاتور مع اتباعه وجماهيره!
لماذا يصر هؤلاء على استراتيجية التلقين والتعنيف؟ مع أننا لو راجعنا مسألة وجودها، لأدركنا أنها بحسب التعاليم السماوية، "منطق المذنبون" ، فالتلقين يعطل مدارك العقل، وعواقب ذلك أدناه الكف عن التفكير، وأكبره الانقياد الأعمى.
هنا ثلاث آيات، تركز على ثلاث جوانب مهمة، وهي التأثير السلبي المتوارث، والانقياد الأعمى ، والدكتاتورية التسلطية.
يقول الرفاعي أن التربية القويمة هي أساس تنشئة الفرد بشكل صحيح ، على خلاف الداء الاجتماعي الذي تورثه المستبدين بفعل تفشيه في المجتمعات. فالتربية تقوم على إعادة الاعتبار للأخلاق، والهدوء، والتفكر!
أكاد أجزم أن الجميع مر بحالات عديدة من التعنيف، أكثرها داخل الحرم المدرسي ممثلا بالمدير، والمشرف، "والمربي" ، والأستاذ، واتعجب من كلمة مربي حيث أنها تضفي للكلمة وأصلها، بعض من الانفصام!
ربما تتعدى الخشونة، والجفاف، والقسوة، في سيكلوجية المدرس، إلى ترسيخ عقد الكراهية، وتغذية الصراعات، والنزعة الشيطانية التي تستهوي الكائن البشري ، وذلك عبر استخدامه للطلاب كأدوات بديلة لممارسة ذلك، متماديا تحريض الطلاب، ومعلنا اغتيال براءة الطفولة، وتكريس العدوانية السوداء.
الفاهم لطبيعة الحياة يدرك أن لكل فعل ردة فعل، وما يتلذذ به بعض المدرسين _ ولن اقول المعلمين، لأن صفة المعلم يغلب عليها كينونية الفرد القدوة_ جاء بفعل التراكم، فهو يقضي ديونا متراكمة لغير أهلها، تنامت وكبرت منذ النشأة الصغرى واستهوت في ذاكرة اللاوعي لديه.
وعطفا على قانون الطبيعة الذي ذُكر آنفا ، فيمكننا القول أن المقموع سرعان ما يصبح قامعا، والمعَنّف يمسي معنِفا، وذلك بفعل طبيعة ثقافتنا المجتمعية. فالباحث في ثقافتنا ، سيجدها أكثر انغلاقا، واحرصها على تكرار الأفعال والأقوال، فثقافتنا مغلقة، سرعان ما يتوارثها الأبناء والاحفاد من غير نقصان، وكأنها وحي مرسل، ولكنها وساوس الشيطان.
وعليه فإن الأب، والمربي ، والمدرس، والزوج المعنف هو خائن خان الله في أمانته، فكلهم راع وكلهم مسؤول عن رعيته. ومسؤولية كل هؤلاء أن لا يصبح المسجون سجانا، والمظلوم ظالما، والضحية جلادا، والشريف سارقا. وبأفعالهم فقد تضامنوا مع الحاكم الظالم، فهم من روضوه على الحقد، والكذب، والظلم، والاستغلال. وهم من سيروضون المجتمع على الذل، والخنوع، والخضوع ، والمسكنة، فثقافة التلقين ، وثقافة القطيع، إرث أسود ينتقل مع كل حرف خُط أو قُرئ.
إن الكلمات المريضة تمرض الأمة، والكلمات الجارحة تفكك الروابط والأواصر، والكلمات الميتة تميت الفكرة، فمتى ما أدرك المسؤول أن الإنسان أثمن رأسمال لديه ، عرف مكامن ضعفه وقوته. لأن الفرد يولد على الفطرة القويمة، والمجتمع من يعمي تلك البصيرة، ويغذي فيها مبدأ تحسسات الطوائف والمذاهب، والفروقات الأثنية ، والتمايزات القبلية، والطامة الكبرى هي المعتقدات التعصبية.
لذا يجب أن ندرك أن كل مأزق نحن نغرق فيه، وأوطاننا كذلك يعود إلى فشل استثمار الفرد، متناسيين أن استثماره هو من أوجد كل هذه النقلات النوعية للأمم من حولنا، لأنها عندما نشدت التمنية، ذهبت إلى أساسها، ويقال اعطي الخبز لخبازه، والفرد بالفعل هو الباني لهذه التنمية.
إن انتقال الدول التي تفتقر إلى موارد طبيعية من قاع الإنحطاط إلى مصافي الدول المتطورة، جاء عبر الإستثمار الصحيح للفرد، والاستخدام الأمثل للأدوات، وكل ذلك عبر منظومة تعليمية قواعدها التربية.
ختاما أقولها، متى ما تحسنت صورة المدارس في عقل طالبه، والأب في تلابيب ذاكرة ابنائه، والزوج في قلب زوجته، وانتزعت صورة الجلاد عند الرعية، ومشاعر الغلظة والقسوة والفضاضة والرعب، سيبقى الدكتاتور وحيدا اعزلا يصارع جهله. مالم سيلبث كل أفراد المجتمع في كرقعة شطرنج قابعة أسفل عرش الدكتاتور ما بين قدميه تحديدا.