في أحيان كثيرة، وكثيرة جداً، تجد في مجتمعنا، مَن يلعنون شظف العيش، وهم لا يسعون لهنائه بعزم وهمة، فلا يَجدُّون في طلب العلم بنهم ورغبة، ولا يُقبلون على العمل بجِد ومحبة، ولا يجتهدون لاكتساب مهارة أو حرفة، ولا يفعلون شيئاً عدا طلب درجة وظيفية وراتب و«مستحقات» وامتيازات إضافية!!. كذلك، يحدث -وهو الأكثر شيوعاً في مجتمعنا للأسف- أن يقترن تذكر «القانون» والتذكير به، والمناداة في كل محفل بهيبته وبسط سيادته، بل والذهاب في طلب تنفيذه.. فقط حين يكون الحق لصالح هذا الذاكر والمتذكر والمُذكر، ويكون القانون في صف ذلك المنادي والمطالب بتنفيذه!!. بينما يكون تجاهل القانون حد إنكار وجوده وجدواه، والامتناع عن امتثاله، وعدم احترامه، ورفض التزامه، والسعي لتجاوزه واختراقه، وتعطيل إعماله، حين يكون الحق علينا.. ولهذا، تجد الجميع -بوعي ودون وعي- يشكو غياب القانون، وينتقد انعدام النظام، لكن أحداً لا يبحث عنه،أو يلتزم به!!. ويحدث أيضاً في مجتمعنا،أن تجد شاكياً صارخاً وناقداً صادحاً، يشكو تردي مستوى نظافة حيه (حارته) وينتقد تدني خدمات النظافة وتكدس شوارع الحي بالنفايات، ويطالب بمحاسبة المتقاعسين والمهملين،وقد يُحمل الحكومة المسئولية كاملة، وربما حمل «الوحدة» سبب هذه «المهزلة»!!. لكنه في الوقت نفسه، لا يبادر، أو حتى يفكر، مجرد التفكير، أن يبادر أو يحاول، مجرد المحاولة، تسجيل قدوة، أو طرح فكرة، تشحذ الهمة، وتجمع الكلمة، وتحقق المصلحة العامة، كأن يبادر إلى رفع المخلفات والتعاون مع أهالي حيه على إيجاد آلية تعاونية لحصر النفايات ورفع مستوى النظافة!!. ويحدث أيضاً في مجتمعنا، أن تجد من يُحاضر ويُنَظِر، ويخطب عن تفسخ الأخلاق ويشجب انحطاط الأذواق، وانحلال القيم وفساد الذمم، وانحسار المُثل وازدهار الحيل، وموات وازع الدين وسبات الضمير الأمين، وتفشي الكذب والمجاملة (النفاق) والحشوش (الغيبة) والتسمير (النميمة)، و..و... ولكنه في الوقت نفسه،يناقض نفسه في سلوكه اليومي وتعاملاته مع الآخرين،ومواقفه وتوجهاته،فتجده -مثلاً- يأمر بالكذب وإبلاغ مَنْ جاء يطلبه بالباب أو بالهاتف أنه غير موجود..وإن خالفه أحدهم في الرأي نعته بأقذع الألفاظ،أما إن انتقده وخطأه، فقد يضربه أو يُكفره أو يهدر دمه!!..كما يحدث أيضاً أن تجد معلماً في صفوف التعليم الأساسي أو الثانوي أو حتى الجامعي..ينادي بالتحضر، ويروم الترقي، ويرنو للتمدن، ويتشدق بالعِلم وأنه عَلم، ويطالب بتقدير الكفاءة الوطنية، وتشجيع البحث العلمي، وتحفيز الابتكار، وحث الإبداع، ودعم المبادرات الساعية لتحقيق الازدهار،و.. ورغم كل ذلك،تجده في الوقت نفسه، متقاعساً عن تأدية دوره، ومُقصراً في أداء واجباته، ومتنصلاً عن مسئولياته الوظيفية والعلمية.. ومع أنه من المنادين بالمزيد من الديمقراطية والحرية والتعددية الفكرية والسياسية، دكتاتوراً مستبداً بحقوق طلابه، ولا يسمح لهم بمناقشته في أفكاره،أو مجرد سماع آرائهم!!. يحدث أيضاً أن تجد مثقفاً ينادي بتحرير الفكر من القيود والإبداع من القمع، وإلغاء الحدود،ويطالب بتخليص المجتمع من رواسب التخلف والأمية والجهل والعادات الاجتماعية البالية والتقاليد الرجعية السلبية،ويتهم السلطة بتهميش المثقف، وتحجيم دوره، وكبح طاقته، وتقييد نشاطه، وتحييده عن قدرة الفعل. ومع ذلك تجده يمارس عادات المجتمع المتخلفة بإخلاص، ويعجز عن مخالفتها أو حتى تسجيل موقف منها، مشاركاً الجميع في سلبيات السلوكيات، ونموذجاً عملياً للانقياد وراء «ثقافة القطيع»، وناسياً أن وعيه وثقافته، فكره ورأيه، قوله وسلوكه.. سلطة بحد ذاتها للتأثير، وأدوات للتغيير، وإحداث التطوير، بلا قيد أو حد!!.. ويحدث أيضاً وأيضاً،أن تجد مدافعاً جسوراً عن حقوق المرأة، ومناصراً مستميتاً لتمكينها في المجتمع، ومطالباً جهوراً بتحريرها من أغلال العبودية، وقيود الكبت، وقمع التعنيف، وتكالب الاضطهاد، وإنكار القدرات، واستصغار المَلكات، واحتقار الذات، والنظرة التمييزية والدونية والمتحرشة والشهوانية،..... كل ذلك يبدر عنه، ويُنظر فيه، وقد يشتهر به، وهو في بيته ومع نسائه، زوجته، أخواته، بناته.. شرقي، رجعي، قمعي بامتياز.. لا يسمح لهن بإبداء رأيهن، أو مناقشته في رأيه، أو مخالفته في أمره، أو مجاراته في وعيه وتعليمه، أو حتى بالإفصاح عن أسمائهن في أي محفل عام، حتى على شاهد اللحد!!. أيضاً يحدث في مجتمعنا -وبكل أسف- أن تجد ناشطين حقوقيين بلغوا الأسماع بمنافحتهم عن الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، وعُرفوا مدافعين عن المهمشين، ومناصرين للمعنفين، ومنتصرين للمضطهدين، ومترافعين عن المظلومين، ومتضامنين مع المحتجزين أو المعتقلين. ولا ينفكون يلعنون المستبدين، ويدعون بالويل والثبور على الظالمين، وينادون بالهلاك للمغتصبين.. وهم أنفسهم،لا يعترفون بحق زملائهم في الترقية، ولا بحقوق أخواتهم في الإرث، ولا بحقوق بناتهم في اختيار الزوج، ولا حتى بحقوق أبنائهم في التنشئة السليمة والتربية القويمة!!. ويحدث، ويحدث.. وما أكثر عِلاتنا وما تحدثه في حياتنا من ضجر وكدر.. لكن الجميع أمامها يبهت، يلتزم حيالها الصمت، وقلما إليها يلتفت، ومع ذلك جميعنا نتساءل: لماذا نحن مِن سيء إلى أسوأ، وحالنا لا يكاد يتغير، وتبدله متعثر حد التعذر؟!!.. وننسى السؤال الأهم: متى نثور على أنفسنا؟!!. [email protected]