رمقهُ بنظرات حادّة بينما كان يتحدث بصوت مرتفع، تجاهل الولدُ تلك النظرات واستمرّ في الحديث كأن شيئاً لم يكُن، بدا سعيداً ضاحكاً كأن تلك النظرات القاسية كانت تدغدغه ! صاحَ إمامُ المسجد فجأة بأعلى صوته الهادر، بدا صوته من الغضب كأنه صراخ بل هو فعلاً صراخ ، ضرب بيده الأرض عدة مرات، دقّ على ميكروفون القبلة منبّهاً ثم ناصحاً ثم مهدداً متوعداً لكنّ جهوده جميعها باءت بالفشل، إذ لا يزال الإزعاج قائماً، والصخب والضجيج يملأ جنبات مسجدهم الصغير. فيما مضى كان الجوّ في مسجدهم روحانياً رائقاً، وكان الهدوء يملأ المكان، والأجواء تعبق بمسك الترتيل والتلاوة. كانت ثمة مساجد أخرى قد عمّ فيها اللعب والفوضى، لكنه ظلّ بمنأى عنها حتى أصابته العدوى أخيراً ، وأصبح يكتوي بنار الإزعاج. جلس أحدهم آخر الصفوف، واستند إلى الجدار الخلفي للمسجد، ومثله فعل كثير من الشباب واقتاد بهم الصغار حتى امتلأ المكان وبدأت أصوات السيمفونية المزعجة. وبالرغم من أن بعضهم كان يضع المصحف بين يديه إلا أنه لم يجد غضاضة في أن يتكلّم مع صديقه المجاور الذي كان يقلّب الجوال ويرسل شيئاً ما لزميله الآخر، وآخر يتناقش مع زميله عن أحداث المباراة، وآخر يحلل مجريات الدوري الكروي، وآخر يتحدث في أي شيء وعن أي شيء كيفما اتفق. هكذا كان المشهد يبدو في مسجدنا الصغير، وما صورناه لكم أيها السادة الكرام لا يعدو أن يكون سوى الجولة الأولى ولعلها الجولة الأطول، أما الجولة الثانية فتبدأ عند إقامة الصلاة، حيث يسود الهرَج والمرج، ويكبّر الإمام تكبيرة الإحرام ولا تزال تسمع الضجيج، أما الجولة الثالثة فعند صلاة التراويح، وجولة رابعة خلال صلاة التهجد، وخامسة بعد صلاة الجمعة لكنها في مسجد آخر، المهم هكذا تتتابع الجولات في دائرة مفرغة، وفي غمرة ذلك يستمتع البعض وتمتد به النشوة حتى يجعل لرجليه ( حبوة ) يستند عليها ليطيب له المجلس وتحلو صحبة الرفاق ! هنا لم يطِق أحد المصلين صبراً، انتفخت أوداجه، أرعد وأزبد، وفي غمرة غضبه لم ينسَ أن يلقي باللوم على حلقات التحفيظ، ولم يغب عنه تجريح وتبريح، ردّ عليه شاب وضياء الوجه، أخبره باحترامٍ أن كلامه يعني كأن الزاعجين ليس لهم آباء وأسر، وكأن التربية اقتصرت على سويعات يمضيها الفتى أو الشاب في الحلقة، هذا إن كانوا جميعاً من طلاب الحلقات والتحفيظ، لكنّ لهم في الأخير آباء ينبغي أن يربونهم على توقير المساجد، واحترام بيوت الله تعالى. سكت الشخص الكبير ولم ينبس ببنت شفة، لكنّ الأصوات عاودت رنينها مجدداً بعد انتهاء الجدال بين الرجل والشاب، وبعد أن مرت لحظة هدوء استمعوا خلالها لمن ستكون الغلبة في النزال. مضت الأيام والشهور ولا يزال المشهد يتكرر كل يوم، بل ربما ازداد في المواسم والأوقات الفاضلة. تحيّر الكاتب المسكين كيف يختم قصته هذه، إذ ليس هناك من نهاية سعيدة لهذه الأحداث الطويلة، كيف يفعل أم كيف تُراه سيتصرف؟ الأحداث تتسارع وفي مسرح الواقع تمتدّ وتمتدّ، كان يتمنى أن تقف ولو يوماً واحداً ليرى ما سيفعل بالنهاية التي تأبى أن تجيء. وفي الأخير لم تسعفه الذاكرة ولا الواقع ولا الزمن بأية نهاية سعيدة، بل ظلّ الحال على ما هو عليه.
لملم أقلامه وطوى صحائفه وفضّل الرحيل إلى شواطئ قصة أخرى جديدة. وإلى حلقة أخرى من ( عصير رمضان ).