وأخيراً انعقد مؤتمر الحوار الوطني في 18من مارس .. وانعقاده سواء في هذا التاريخ أو في غيره أمر متوقعاً ولا ينم عن أي اختراق يجعلنا ننظر إلية بالحدث المميز .. بل حتى جل المدعوون لحضوره من الوجوه المستهلكة أمراً متوقعاً هو الآخر . وهي وجوه أكل منها الدهر وشرب وبالأخص ممن دعوا لتمثيل الجنوب .. والجنوب براءة منهم . ومن حسنات هذا المؤتمر بأنه قد يُدخل اسم اليمن في موسوعة جينز كونه أطول مؤتمر في التاريخ ، وثانياً أول مؤتمر وطني .. وأشدد على كلمة وطني .. يتكئ في تمويله الكامل على الأعطيات الخارجية . وهدفه في الأصل ترتيب الأوراق الداخلية لإخراج النظام من أزمته الخانقة وإعادة الحياة في شرايينه .. ذلك هو فحوى المبادرة الخليجية . أما القضايا الأساسية التي يدعي المؤتمر معالجتها فقد دخلت بوصفها ملحقات في التسوية السياسية لا غير .
ولكن المتابع لما يواكب هذا الحدث هو التضخيم الإعلامي له سواءً من حيث حدثه أو مخرجاته أو مآل تلك المخرجات . وكذا الإدعاء بأنه شأن داخلي ونابع من الحكمة اليمانية وهو إطراء زائف لا صحة له غير التستر على المعوقات الحقيقية لفشل المؤتمر ، وتبرير الوقوع في براثن الوصاية الخارجية. إذ كيف يستقيم مثل ذلك الأمر وحتى الأوراق وطريقة إعداد محاضر الجلسات يتم أعدادها لهم من فريق جمال بن عمر ، وأظن لولا الأعطيات السخية لحضور الجلسات لانسحب كثير منهم إحساسا منهم بدورهم الباهت .
و الملفت في الأمر هو ذلك التفاؤل الكبير الذي تبديه بعض النخب السياسية والثقافية حين يتحدثون عن المؤتمر ودوره المأمول وكأنهم يعيشون في عالم افتراضي إن كانوا صادقين حقاً . ويأتي مثل ذلك التفاؤل الشاطح سواءً في كتاباتهم ، أو متن خطاباتهم ، أو تصريحاتهم الإعلامية ، أو أثناء حديثهم عبر وسائل الإعلام . والمصيبة أن يأتي ذلك التفاؤل أحياناً مصحوباً بشعور من الزهو ، وهو شعور يبدو جلياً على محياهم ، وكأني بهم سيقيمون بنيان لم يسبقهم به أحدا . وهي حالة لا يمكن وصفها إلا بطغيان عاطفة القلب على العقل ، وهي حالة لا مكان لها في الممارسة السياسة ، إلا عند من لم يخبرها وتتحول عثراتها بعدئذٍ إلى دروس لهم . أقول مثل ذلك لأنني لم أجد أي مؤشر حقيقي لمثل ذلك التفاؤل إذ ما نظرنا إلى المؤتمر بوصفه فعلاً سياسيا لا يمكن عزله عن السياق الاجتماعي والثقافي للمجتمع . لا بوصفه فعلاً سياسياً معزولاً عن شروط ذلك الواقع ، وإلا تحول إلى مجرد أطروحات نظرية حالمة لتجاوزها شروط الواقع .
إن بنية النظام القديم ، السياسي منه - شخوص سياسية و أدوات القوة بمختلف أشكالها. والاجتماعي - تحالف القبيلة والعسكر وفقهاء القبيلة ، وواجهاتهم السياسية – مؤتمر ، إصلاح - لا زالت قائمة وممسكة بخطام الدولة حتى اليوم . وهؤلاء هم من يرعون مؤتمر الحوار ، وسيناط بهم تنفيذ مخرجاته للانتقال باليمن إلى الدولة المدنية الحديثة إذا ما كُتب للمؤتمر النجاح بالطبع ؛ أليس ذلك إدعاءً أجوف ، وأمر مثير للسخرية في الوقت ذاته ،وقد قالوا قديماً لتحلب البقرة تفكر ( أنظر ) في وجهها ، فهل يا ترى هذا الحرس القديم مهيأ تاريخياً لإنجاز مثل تلك المهمة ، ومنهم بالمناسبة من كان من مهندسي ذلك النظام ، وآخرون كانوا أدواته الضاربة وقد خبرنا نحن أبناء الجنوب أدوارهم تلك في حرب 94م وما بعدها .
وهم بالمناسبة ليس بمنأى عن ما حدث في الجنوب من مآسي ، وما تحميل من كان كبيرهم بالأمس القريب سوى من باب إذا برك الجمل كثرة السكاكين ، وإلا فهم في الشر سوى وهم بالمناسبة أبو حتى عن إدانة حرب 94م الظالمة . وهي نخب مرتبطة بارتباطات عضوية بالقوى الاجتماعية التقليدية ؛ وتبعاً لذلك لا تستطيع الانفكاك منه لأن وجاهتها السياسية والاجتماعية ومستوى وضعها المادي مُدينة فيه لذلك النظام ، وبقاء تلك المصالح مرهون ببقاء جوهر ذلك النظام وهي الإبقاء على مصالح تلك القوى القديمة ، ثم أن تأسيس الدولة المدنية يعنى في نهاية المطاف إحداث تحول جذري في بنية الدولة والمجتمع ، وهم أن فعلوا مثل ذلك سيصبحون كمن يُحظر الطوق ليوضع على رقبته ،.
وهو أمر مستبعد في ضوء المعطيات على الأرض ، خصوصاً وان القوى الاجتماعية القديمة علاوة على حضور مخالبها في منظومة الحكم فهي تحظى بتأييد من قوى إقليمية ودولية مؤثرة في اليمن ، ارتبطت معها بتحالفات يمتد عمرها قرابة النصف قرن . وكان من أهم انجازاتها إفراغ ثورة 26 سبتمبر من مضمونها الحداثي . وهي لازالت في حاجة إلي تحالفاتها ، وما تسريبات إصرار الجارة على إبقاء بعض القادة العسكريين لحساباتها الخاصة سوى مؤشر على مآلات العلاقة في المستقبل . فهل المؤتمر بعد كل ذلك مدعاة للتفاؤل أم العكس ؟