كانت هنالك مقولة شهيرة في تونس سنة 1920 مؤداها أن “تحرر النساء أدَّى إلى تحرر الجميع”. ولعله من المفارقة المحزنة أن هذه المقولة هي ذاتها التي عادت لتُقاتل من أجلها الكثير من الجهات النسوية في تونس اليوم، تونس ما بعد الثورة، تونس 2013. وهو ذات التحرر الذي تبحث عنه المرأة في “مصر التحرير”، وفي “ليبيا الثورة” وفي جميع الدول العربية. وإن تفاوتت المطالب في جرأتها، وتنوعت بتنوع المجتمعات إلا أنها جميعًا تتفق على أن هناك جناحًا مجتمعيًّا مهمًّا، مُقيدًا ومعطلاً حتى إشعار آخر. الحديث عن المرأة السعودية -تحديدًا- يجعلك كرجل تتوقع مسبقًا اعتراضك بمقولات سعودية شهيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، مقولة دعاة الإصلاح والحقوق: “فلنتحدث عن حقوق الرجل أولاً” أو مقولة دعاة الحفاظ على الضوابط الشرعية: “من أوكلك للحديث عنهنّ!؟”. الغريب أن هذه المقولات تأتي على لسان من يدعون لحقوق “المواطن” أيًّا كان جنسه، أو ممن يدعون لضوابط المجتمع والحفاظ على خصوصيته عن طريق منع الاختلاط، والتصدي المستمر لعمل المرأة، وهم أيضًا من يرفضون طرح قضية تزويج القاصرات، إما لأنها ليست “أولوية”، أو بحجة أنها قضية شرعية محسومة لا يمكن طرحها للنقاش. إذن هم يتوكلون بالنيابة عن المرأة للحديث عن كل ما يجب منعه، أو تأخيره، ثم يعترضون على كل شخص يريد الحديث عمّا يمكن السماح به، وحجتهم في ذلك لا تختلف عن حجة دعاة تحرير المرأة، “فتحرر النساء هو طريق لتحرر المجتمع”. ولكن باعتبار أن هذا التحرر، ليس مدعاةً للتقدم والعدالة والمساواة، ولكن لتعطيل الحقوق الأساسية، وإلهاء المجتمع، أو للتغريب وضياع الهوية! أعترف بأن الخلاف بيننا -نحن الذكور- حول من يحق له الحديث عن المرأة لا يختلف عن الخلاف حول حيثيات هذه القضية ومآلاتها، ولا يُثبت من معها ومن ضدها، ولا يعني بالضرورة أن هناك من يُمثل رأي المرأة تمامًا ومن لا يمثله. كل ما في الأمر أنها شهوة ذكورية تسلطية عميقة الجذور جينيًّا وثقافيًّا، تريد الخوض في كل ما يخص هذه الاقطاعية التاريخية (المجتمع) التي يملكها الرجل والمتوارَثة جيلاً بعد جيل. والمرأة مثلها في ذلك مثل الطفل والطفلة ليست إلا جزءًا من هذه الإقطاعية. ولكن هل الحل في أن نكتفي –كمجتمع- بحديث المرأة عن ذاتها بذاتها، وفي أن تمتنع المرأة عن الكتابة حول الرجل وقضاياه؟. تذهب المرأة وحقوقها كبش فداء للعبة سياسية اجتماعية ذكورية، تروم في آخرها كما في أولها لتعزيز سلطة ذكورية كامنة ومتمكنة من وعي هذه المجتمعات أزعم أن الحل في مواصلة الحديث و”الكتابة” من الجميع ل” يتحرر الجميع”، فاللغة لا جنس لها، و”التحرر” مطلب لغوي قبل أن يكون مطلبًا اجتماعيًّا. فالكثير اليوم من المقولات الدارجة والمتداولة، المباشرة وغير المباشرة، في حواراتنا ونقاشاتنا تدعو في ظاهرها كما في باطنها لتقييد المرأة، والاستئثار بحقوقها بدعوى معرفة مصلحتها، من أبسط حق كقيادتها للسيارة، إلى أعقد حق كتقريرها لمصيرها، وكل ذلك من باب الحفاظ والخوف عليها، فيما كل التفسيرات النفسية والاجتماعية تأخذنا لأبعد من ذلك، فداعي التقييد وأساسه هو الخوف منها وليس عليها. وفي “حرف الجر” هذا يكمن فرق جوهري، فمن يخاف على إنسانٍ آخر ليس كمن يخاف منه، الأول معاون ونِدّ وشريك، بكل ما تحمله هذه الكلمات من معنى، أما الثاني فمسيطر ومستبد ومُشكِّك، بكل ما يحمله “الخوف” من معنى! صراع المرأة لنيل حقوقها الاجتماعية لا يختلف عن صراع الرجل لنيل حقوقه السياسية، فهو صراع ضد “سُلطة”، أيًّا كان نوع هذه السلطة، ثقافية معرفية أو سياسية، ومع ذلك تجد كثيرًا من الحقوقيين، والسياسيين لا يولون حقوق المرأة الاجتماعية الأهمية ذاتها، إما لاعتبار “الأولويات” التي يعتقدون بها، أو مراعاة لمشاعر “الجماهير” التي يخافون غضبها أو ينتظرون تأييدها، لتذهب بذلك المرأة وحقوقها -كالعادة- كبش فداء للعبة سياسية اجتماعية ذكورية، تروم في آخرها كما في أولها لتعزيز سلطة ذكورية كامنة ومتمكنة من وعي هذه المجتمعات، متجاهلةً الضرورات التنموية الاقتصادية للوطن. ختاماً، لسنا بحاجة إلى مبشرين جدد في هذا العصر حتى يتنبأون لنا بمستقبل عمل المرأة وحقوقها، وما يمكنها عمله وما لا يمكنها عمله، وقراءتنا لواقع الحال المجتمعي وخصوصيته لا يجب أن تتجاوز حدودها المنطقية لتلامس تخوم النبوءة المطلقة، كما أن هذه القراءة لا يجب أن تكون حجة لنا بقدر ما هي حجة علينا لمزيد من المطالبة بإقرار القوانين والنظم التي لا تفرق بين جنس “مواطن” وآخر، والتي تضمن، فقط، العمل المشترك، وإتاحة الفرص للجميع. فالمرأة ليست “نصفنا” الآخر.. المرأة إنسانٌ آخر. *من تركي التركي