بعد فشل إطلاقه.. صاروخ حوثي يسقط بالقرب من مناطق سكنية في إب    "مسام" ينتزع أكثر من 1800 لغم حوثي خلال أسبوع    وسائل اعلام اسرائيلية: هجوم اسرائيلي أمريكي شاركت فيه عشرات المقاتلات ضد اهداف في اليمن    وقفة نسائية في حجة بذكرى الصرخة    ثلاثة مكاسب حققها الانتقالي للجنوب    شركة النفط توضح حول تفعيل خطة الطوارئ وطريقة توزيع البنزين    عشرات الغارات استهدفت ثلاث محافظات    برعاية من الشيخ راجح باكريت .. مهرجان حات السنوي للمحالبة ينطلق في نسخته السادسة    رسالة من الظلام إلى رئيس الوزراء الجديد    الافراج عن موظفة في المعهد الديمقراطي الأمريكي    الثقافة توقع اتفاقية تنفيذ مشروع ترميم مباني أثرية ومعالم تاريخية بصنعاء    تواصل اللقاءات القبلية لإعلان النفير العام لمواجهة العدوان الامريكي    سوريا .. انفجار الوضع في السويداء بعد دخول اتفاق تهدئة حيز التنفيذ    من أسبرطة إلى صنعاء: درس لم نتعلمه بعد    وزير الصحة يدشن حملات الرش والتوعية لمكافحة حمى الضنك في عدن    الخليفي والمنتصر يباركان للفريق الكروي الأول تحقيق كأس 4 مايو    بمتابعة من الزبيدي.. إضافة 120 ميجا لمحطة الطاقة الشمسية بعدن    الرهوي يناقش مع الوزير المحاقري إنشاء منصة للأسر المنتجة    الزعوري يبحث مع الأمم المتحدة تعزيز حماية وتمكين المرأة في اليمن    الكثيري يبحث مع فريدريش إيبرت فتح آفاق دعم دولي للجنوب    وزارة الشباب والرياضة تكرم موظفي الديوان العام ومكتب عدن بمناسبة عيد العمال    إلى رئيس الوزراء الجديد    عطوان ..لماذا سيدخل الصّاروخ اليمني التّاريخ من أوسعِ أبوابه    مليون لكل لاعب.. مكافأة "خيالية" للأهلي السعودي بعد الفوز بأبطال آسيا    أرواحهم في رقبة رشاد العليمي.. وفاة رجل وزوجته في سيارتهما اختناقا هربا من الحر    الأرصاد تتوقع أمطاراً رعدية بالمناطق الساحلية والجبلية وطقساً حاراً بالمناطق الصحراوية    تفاصيل جديدة لمقتل شاب دافع عن أرضه بالحسوة برصاص من داخل مسجد    بيع شهادات في جامعة عدن: الفاسد يُكافأ بمنصب رفيع (وثيقة)    من أين تأتي قوة الحوثيين؟    رسميًا.. بايرن ميونخ بطلًا للبوندسليجا    تشيلسي يضرب ليفربول ويتمسك بأمل الأبطال    تدشين برنامج ترسيخ قيم النزاهة لطلاب الدورات الصيفية بمديرية الوحدة بأمانة العاصمة    بدء تنفيذ قرار فرض حظر على الملاحة الجوية لمطارات الكيان    نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور عبدالله العليمي يعزي في استشهاد عمر عبده فرحان    وسائل إعلام غربية: صدمة في إسرائيل..الصاروخ اليمني يحرق مطار بن غوريون    يادوب مرت علي 24 ساعة"... لكن بلا كهرباء!    وزير الصحة ومنظمات دولية يتفقدون مستشفى إسناد للطب النفسي    قدسية نصوص الشريعة    صرخةُ البراءة.. المسار والمسير    فيما مصير علي عشال ما يزال مجهولا .. مجهولون يختطفون عمه من وسط عدن    الاجتماع ال 19 للجمعية العامة يستعرض انجازات العام 2024م ومسيرة العطاء والتطور النوعي للشركة: «يمن موبايل» تحافظ على مركزها المالي وتوزع أعلى الارباح على المساهمين بنسبة 40 بالمائة    متى نعثر على وطن لا نحلم بمغادرته؟    ملفات على طاولة بن بريك.. "الاقتصاد والخدمات واستعادة الدولة" هل يخترق جدار الأزمات؟    المصلحة الحقيقية    أول النصر صرخة    أمريكا بين صناعة الأساطير في هوليود وواقع الهشاشة    مرض الفشل الكلوي (3)    التحذير من شراء الأراضي الواقعة ضمن حمى المواقع الأثرية    وسط إغلاق شامل للمحطات.. الحوثيون يفرضون تقنينًا جديدًا للوقود    إلى متى سيظل العبر طريق الموت ؟!!    قيادي حوثي يفتتح صيدلية خاصة داخل حرم مستشفى العدين بإب    ريال مدريد يحقق فوزًا ثمينًا على سيلتا فيغو    أطباء تعز يسرقون "كُعال" مرضاهم (وثيقة)    الأهلي السعودي يتوج بطلاً لكأس النخبة الآسيوية الأولى    المعهد الثقافي الفرنسي في القاهرة حاضنة للإبداع    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    مقاومة الحوثي انتصار للحق و الحرية    القاعدة الأساسية للأكل الصحي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة الشمال:تحديات ما بعد انفصال الجنوب في السودان
نشر في عدن الغد يوم 14 - 11 - 2011


سامي صبري عبد القوي
رغم محاولات شمال السودان التخفيف من مآلات وتداعيات انفصال الجنوب، وإعلان قيام دولته رسميا، في التاسع من يوليو 2011، على مجمل أوضاعه، فإن واقع الأمر يبدو مغايرا تماما، حيث يجابه الشمال تحديات داخلية وخارجية عديدة، تحمل في طياتها العديد من الملفات الشائكة، والتي تقف حجر عثرة أمام الانطلاقة التي بشر بها للسودان حزب المؤتمر الوطني الحاكم، عقب انفصال الجنوب.

أولا- التحديات الداخلية:
في هذا الإطار، يواجه شمال السودان تحديات على مختلف الصعد، لاسيما السياسية، والاقتصادية. وإن كانت هذه التحديات قائمة بالفعل، فإن انفصال الجنوب سيزيد من حدتها، ويعجل ظهورها:
أ- على الصعيد السياسي:
1- تعزيز النزعات الانفصالية:
يعد انفصال الجنوب سابقة يمكن أن تحتذي بها أقاليم ومناطق سودانية أخري، لديها نزعات انفصالية متوارية أو مشاكل مع الحكومة المركزية. إذ قد يشجع انفصال الجنوب تلك المناطق على المطالبة بحق تقرير المصير كخطوة تكتيكية للمطالبة بعده بالانفصال، أو بسلطات واسعة من الحكم الذاتي على أقل تقدير. ومن أبرز المناطق التي تثار تكهنات بإمكانية إعادة إنتاج النموذج الجنوبي بها:
- إقليم دارفور:
لا تزال أزمة دارفور تراوح مكانها بعد، ومرشحة للانفجار في أي وقت. فتوقيع "اتفاق سلام دارفور" بصورته النهائية في الدوحة في 14 يوليو 2011 بين الحكومة المركزية ومتمردي حركة التحرير والعدالة -وهي حركة ليس لها وزن نسبي في الإقليم ولا تتمتع بثقل عسكري كبير- لا يمكن القول إنه وضع حلا للأزمة، لأن الاتفاق لم يشمل الأطراف الفاعلة في الإقليم، خاصة حركة العدل والمساواة، والتي تعد أحد أكبر الفصائل المسلحة في دارفور.
وهو ما يعني أن الاتفاق كان جزئيا ولم يكن شاملا، مما يهدد باشتعال الموقف، لاسيما أن العديد من الحركات المتمردة في دارفور تحظي بدعم ومؤازرة الحركة الشعبية، منذ اللقاء الذي جمع الزعيم الراحل جون جارانج وزعماء تلك الحركات في واشنطن عام 2004، والذي استهدف التنسيق بينهما.
ولايزال هذا الدعم متصلا حتى بعد الانفصال، فالعديد من قيادات حركات التمرد بدارفور موجودون بالجنوب، وفي مقدمتهم قيادات من حركة العدل والمساواة، وهو ما يشير إلي سعي جوبا لتكون المأوي والملاذ والداعمة لتلك الحركات، من منطلق ما تروج له برعايتها لما تطلق عليه الأقاليم المهمشة في السودان، وفي الوقت ذاته استخدامها كورقة ضغط على الخرطوم، والتي تتهمها جوبا بدعم حركات التمرد المسلحة في الجنوب.
ومن ثم، ليس من المستبعد تجدد المطالبة بتقرير مصير دارفور بشكل جدي -بعد أن كانت تطرح على استحياء في السابق- خاصة مع وجود أطراف غربية متعددة تحبذ لهم الانفصال وتدعمه على كل المستويات. وهو ما يمكن تلمسه من إعلان جون كيري، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، خلال تعليقه على المفاوضات التي كانت تجري بالدوحة، والتي رآها لا تحقق نجاحا. وذكر في هذا الصدد "إن لقاء مع نازحين بدارفور قد عزز لدي أهمية قيامنا بإعادة عملية السلام في دارفور إلي جدول الأعمال بطريقة أكبر وأهم، مع وجود عدد أكبر من الأطراف على الطاولة". وهو ما أثار العديد من الهواجس حول اتجاه الولايات المتحدة إلي إعادة تدويل أزمة دارفور بشكل جديد، وإعادة سيناريو الجنوب بكل تفاصيله في غرب السودان.

- شرق السودان:
لم تؤد اتفاقية أسمرة الموقعة في أكتوبر 2006 بين حكومة السودان وجبهة شرق السودان المسلحة -والتي تضم تنظيم مؤتمر البجا وجبهة الأسود الحرة- إلا إلي مكاسب مؤقتة وشخصية. فتاريخيا، كان الشرق أكثر استخداما للسلاح ضد الخرطوم من دارفور، مما يجعله مؤهلا للتأثر بانفصال الجنوب، وهو ما بدا جليا عقب إجراء استفتاء الجنوب في يناير 2011، حيث اجتاحت ولايات الشرق -خاصة ولايتي البحر الأحمر، والجزيرة- حمي المطالبة بتقرير المصير، بعد موجة من الاضطرابات والاحتجاجات شهدتها الولايتان.
كما انطلق تنظيم جديد في المنطقة، أطلق على نفسه اسم "الجبهة الثورية لأبناء الإقليم الأوسط" ليجاري ساحة المطالبات بتقرير المصير، مستخدما نفس خطاب الحركة الشعبية لتحرير السودان، لاسيما أن الحركة ترتبط بعلاقات وطيدة بالكثير من قيادات الشرق منذ سنوات التمرد. وقد بدأ هذا التنظيم يعلن عن نفسه بعد تبنيه عملية حرق خمسة آلاف فدان من حقول قصب السكر التابعة لشركة سكر سنار مطلع العام الجاري (2011)، معتبرا أن هذه العملية بمثابة إنذار شديد اللهجة للحكومة المركزية للالتفات لمطالب الشرق. ولم تتوقف فكرة استنساخ الجنوب بالشرق عند حد المطالبة بتقرير المصير، بل ذهب البعض إلى المطالبة مباشرة بالانفصال، وإقامة دولة في الشرق قائمة بذاتها، استنادا إلى أن هذه المنطقة التي تعاني التهميش تمتلك كل مقومات الدولة .

- جنوب كردفان والنيل الأزرق:
أدى انفصال الجنوب إلى إبراز مسألة ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان الحدوديتين، حيث تنص اتفاقية السلام الشامل في الفصل الخامس على أن من حق السلطتين التشريعيتين في هاتين الولايتين مراجعة مواد الدستور التي تراها معطلة لتطبيق اتفاقية السلام. وفي هذه الحالة، تتفاوض مع الحكومة على تعديلها أو إلغائها.
وهناك تخوف من استغلال آلية المشورة الشعبية سياسيا ضد الحكومة المركزية، لاسيما أن هناك العديد من الخلافات حول مدلول المشورة الشعبية، على مستوي الحكومة المركزية، وعلى مستوى حكومتي الولايتين، الأمر الذي يوضح حجم التحديات التي تواجه عملية الاستقرار السياسي والأمني في الولايتين. فبينما تري الخرطوم أن المشورة الشعبية ما هي إلا مجرد استطلاع رأي غير ملزم، باعتبار تبعيتهما الجغرافية للشمال، نجد أن الحركة الشعبية لتحرير السودان، على النقيض من ذلك، تروج إلي أن المشورة الشعبية تعني منح سكان ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق الحق في المطالبة بحق تقرير المصير، مما يمهد إلي طلب الانفصال.

وقد يصبح ملف جنوب كردفان والنيل الأزرق أشد خطورة من دارفور، وذلك وفقا لثلاثة عوامل، هي:
- التدخل الجنوبي السافر في هذا الملف، كورقة ضغط على الخرطوم عبر تشتيت جهودها في مشكلات جانبية تستفيد منها الحركة الشعبية.
- استمرار العمليات العسكرية في جنوب كردفان، وفشل اتفاق أديس أبابا الإطاري الموقع بين الخرطوم والحركة الشعبية (نيابة عن جنوب كردفان) في يونيو 2011 في وضع حد لها، خصوصا أن أسبابها الحقيقية متباينة.
- ارتفاع سقف طموحات أهالي كردفان، الذين يلعب عدد منهم دورا سياسيا مهما في جسد الحركة الشعبية، والذين هددوا بأنهم إذا لم يحصلوا على حقوقهم السياسية، فسيكون الانفصال مطلبهم، وهو ما يعني تكرار سيناريو الجنوب، وأن تتحول جنوب كردفان إلي مصدر خطر حقيقي على ما تبقي من وحدة لشمال السودان.
ومن ثم، فإن هذه النزعات الانفصالية تمثل اختبارا للسودان حول مدي قدرته على تطويق منهج تقرير المصير، والحيلولة دون انتشاره إلي المناطق الملتهبة، لاسيما دارفور وجنوب كردفان، وهو ما سينعكس بدوره على الوضع الأمني من حيث جعل السودان في حالة تأهب واستنفار دائمين، الأمر الذي سيؤدي إلي إرهاق وتشتيت قوته، وهو ما ستستفيد منه دولة الجنوب، حال دخول البلدين في أي مواجهة مسلحة.
2- زيادة حالة الاستقطاب السياسي:
من المتوقع أن يزيد انفصال الجنوب من حالة الاستقطاب السياسي بين الحكومة والمعارضة الشمالية، حيث تحمل المعارضة حزب المؤتمر الوطني الحاكم مسئولية انفصال الجنوب، واشتعال الاضطرابات في مناطق أخري، ومن ثم ترى أنه غير جدير بالاستمرار في الحكم، لأن استمراره يعني المزيد من التفكيك والانشقاقات.

وتري المعارضة أن فشل الخرطوم في الحفاظ على وحدة السودان يفقد الحكومة السودانية شرعيتها السياسية، وهو ما يتطلب- حسب رؤيتها- حكومة انتقالية قومية تعمل على عقد مؤتمر دستوري لتحديد شكل دولة شمال السودان وكيفية حكمها. إلا أن رفض الاستجابة لهذه المطالب دفع المعارضة الشمالية إلى حد المطالبة بإسقاط نظام الحكم في الخرطوم.

وربما تستغل المعارضة حالة الاضطرابات والاحتجاجات السياسية في بعض المناطق لتعبئة الشارع السوداني ضد السلطة المركزية، مستوحية روح الثورة التي سرت في عدد من البلدان العربية، لاسيما حالة مصر، بما لها من وقع خاص في نفوس السودانيين، مما سيقود السودان إلي حالة من عدم الاستقرار السياسي.
ب- التحدي الاقتصادي:
يعد الجانب الاقتصادي من أبرز التحديات التي ستجابه دولة الشمال بعد انفصال الجنوب، نظرا لخروج نصيبها من عائدات بترول الجنوب، والذي يقدر بنحو 80% من كل عائدات البترول. وسيترتب على ذلك انخفاض كبير في احتياطي العملة الصعبة، يوازي الانخفاض في صادرات النفط، حيثتمثل هذه الصادرات العنصر الأساسي لتوفير احتياطيات النقد الأجنبي لشمال السودان، فضلا عن أنها تشكل نحو 36% من الموازنة العامة، وهو ما يضع الخرطوم في وضع اقتصادي حرج للغاية.
ورغم أن الرسوم التي سيدفعها الجنوب للشمال، مقابل مرور بتروله وشحنه من ميناء بورسودان، قد تسد بعض العجز في احتياطي العملة الصعبة، فإن بترول الجنوب قد يغير مساره باتجاه ميناء مومباسا في كينيا، حيث يوجد مشروع بهذه الكيفية بين حكومة الجنوب والحكومة الكينية منذ سنة 5002. كما تخطط حكومة الجنوب إلى بناء معمل خاص بها لتكرير البترول، حتى لا تعتمد على الشمال.

وسيترتب على هذه الأوضاع الجديدة آثار اقتصادية مهمة على شمال السودان، منها:
1- أمام تقلص حجم الموازنة العامة للدولة، بعد فقدان عائدات بترول الجنوب، ستضطر حكومة الشمال إلي ضغط النفقات العامة، مما سيؤثر سلبيا في قطاعات الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والإسكان، ناهيك عن الاضطرار إلي رفع الدعم جزئيا عن سلع أساسية مثل البترول والسكر،ووقف استيراد بعض المواد غير الضرورية، وسيؤدي ذلك بدوره إلي ارتفاع نسب التضخم والغلاء.

2- قد تضطر الدولة لتعويض ذلك إلى زيادة الضرائب والرسوم الجمركية، دون أن تزيد الأجور بالنسبة نفسها، وهذا يعني زيادة العبء المعيشي على الطبقات المتوسطة والضعيفة، التي ظلت تعاني لسنوات من الضائقة المعيشية، ولم تتحسن أحوالها حتى بعد تدفق عائدات البترول، وسيصب ذلك في اتجاه زيادة الاضطرابات السياسية.

3-لن تستطيع الحكومة مقابلة تعهداتها الداخلية في اتفاقيات السلام تجاه تعمير وتأهيل وتنمية مناطق دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وشرق السودان، وسيجر علىها ذلك بعض المشكلات والاحتقانات السياسية أو النزاعات المكشوفة.

4- قد لا تتمكن حكومة الخرطوم من سداد مستحقات الديون الخارجية، والتي تقدر حتي هذا العام (2011) بنحو 34 مليار دولار، منها أكثر من 16 مليار دولار فوائد خدمة الديون، والجزاءات على التأخير أو عدم الالتزام بالسداد بالعملة الصعبة أو السلع أو الخدمات. وفي ضوء الأوضاع الجديدة، قد يشكل التقاعس عن سداد الديون ضغوطا خارجية مضاعفة على الخرطوم، وربما يحرمها من أية قروض جديدة، إذا اضطرت لذلك.

من هنا، فإن حكومة الخرطوم باتت أمام تحديات اقتصادية تستوجب البحث عن بدائل أخري لتتجنب مخاطر فقدان بترول الجنوب. ومن أبرز البدائل المتاحة أمامها:
1- الاعتماد على المجال الزراعي، حيث تتوافر كل المقومات التي تبشر بتحقيق إنتاجية كبيرة في هذا المجال. وفي هذا الصدد، فقد أشار تقرير للبنك الدولي عن الوضع الاقتصادي في السودان إلي أن الزراعة في السودان هي البديل الجيد من البترول، في شأن دفع التنمية إلى الأمام في المدى المتوسط. حيث تؤدي تنمية القطاع الزراعي إلي توزيع الثروات على سكان الريف في جميع أنحاء البلاد، على عكس البترول، الذي كان من نتائجه السلبية أن ركز الثروة في العاصمة دون الولايات الأخرى، التي انخفض دخل الفرد فيها بدرجة ملموسة.

2- تحريك قطاع الصناعة، الذي سيستفيد بشكل أساسي من أي توجهات تعيد الزراعة والإنتاج الحيواني للصدارة مجددا. إذ يوفر هذان القطاعان المواد الخام للقطاع الصناعي، مع وجود خيار الولوج لمجال الصناعات الثقيلة. ويستوجب هذا بالطبع أهمية إصلاح ظروف عمل الصناعة المحلية ومساعدتها من قبل الحكومة، بتقليل تكلفتها عبر خفض الرسوم والضرائب.
3- من أهم هذه البدائل أيضا معدن الذهب، الذي يتم البحث والتنقيب عنه في مناطق عديدة بالشمال، وبدأت عمليات اكتشافه واستخراجه فعلا. وتشير الدراسات الجيولوجية إلى وجود خمسة عشر موقعا تحتوى على ذهب ومعادن نفيسة أخري، وقد تم استخراج سبعة أطنان ونصف طن في موقع واحد من هذه المواقع في مرحلته الاستكشافية الأولي. ومن ثم، يمكن الاعتماد عليه مستقبلا كأحد مصادر الإيرادات الأساسية في الميزانية، وسيسهم تصديره في حل أزمة النقد الأجنبي المحتملة.ومن ثم، فإن تبني الشمال كل أو بعض هذه البدائل سيسهم في تعويض فقدان الجزء الأكبر من عائدات البترول، وفق خطط مرحلية وأخري بعيدة.
ثانيا- التحديات الخارجية:
تتمثل جل التحديات الخارجية لشمال السودان في القضايا العالقة مع دولة الجنوب الوليدة، حيث يسود العلاقة بينهما قدر كبير من الالتباس وعدم وضوح الرؤية المستقبلية بشأنها من قبل الطرفين.
فالانفصال لم يحسم سوي وجه واحد من وجوه العلاقات المتشابكة بينهما. فثمة قضايا عالقة لم يتم حسمها بعد، منها ما يعرف ب "قضايا ما بعد الاستفتاء"، وهي عشر قضايا، كان قانون الاستفتاء على حق تقرير المصير، الذي تم إقراره في نهاية ديسمبر 2009، قد نص على وجوب الوصول إلى اتفاقات بشأنها في حالة اختيار الجنوبيين للانفصال. هذه القضايا هي (الجنسية، العملة، الخدمة العامة، وضع الوحدات المشتركة والمدمجة والأمن الوطني والمخابرات، الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، الأصول والديون، حقول النفط وإنتاجه وترحيله وتصديره، العقود البيئية في حقول النفط، المياه، الملكية).

وكان ينبغي حسم تلك القضايا قبل الإعلان الرسمي لانفصال الجنوب في 9 يوليو 2011، ولكن لم يتمكن الطرفان من الوصول إلى تفاهمات أو اتفاقات بشأنها. هذا بالإضافة إلي أربع قضايا شائكة أخري كان يجب إنجازها في مرحلة سابقة قبل إجراء الاستفتاء، وهي: ترسيم الحدود، قضيةأبيي، الترتيبات الأمنية، المشورة الشعبية في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. ومن ثم، فإن مجمل القضايا العالقة بين الدولتين تمثل أربع عشرة قضية شائكة، قد يستغرق بحث كل قضية بمفردها وقتا يصعب تقديره.
وكمثال على مدي صعوبة القضايا العالقة، يمكن التعرض بشيء من التوضيح لأبرز هذه القضايا، ويأتي على رأسها أبيي وترسيم الحدود، لما تحويانه من مخاطر قادرة على تفجير الأوضاع.

1- قضية أبيي:
تمثل أبيي الغنية بالنفط إحدى أبرز نقاط التوتر القلقلة بين الجانبين، والتي يمكن أن تؤدي - حال انفجارها- إلي انهيار الهدنة الهشة، ونشوب حرب جديدة. فقد كان من المقرر إجراء تصويت مواز في منطقة أبيي، في 9 يناير 2011، طبقا لبروتوكول السلام الخاص بأبيي، والذي أعطي سكانها الحق في تحديد استمرار تبعية المنطقة للشمال أو ضمها للجنوب. إلا أن هذا الاستفتاء لم يعقد في موعده، وتم تأجيله لأجل غير معلوم، نظرا للانقسام الحاد بين الشمال والجنوب تجاه بعض القضايا الأساسية، مثل ترسيم الحدود، وتحديد من يحق له الاقتراع في الاستفتاء العام. ويزيد من حدة الأزمة في أبيي تعنت كل طرف بشأن تبعية الإقليم له.
وقد استبق الشمال ما ستئول إليه عملية الاستفتاء المؤجلة بشأن الإقليم، بتأكيد الرئيس (الشمالي) عمر البشير أن "أبيي ستبقي شمالية. وإن لم يتم ذلك عن طريق صناديق الاقتراع، فإنه سيتم عبر صناديق الذخيرة"، وهي رسالة موجهة للجنوب، فحواها أن الشمال عازم على الاحتفاظ بأبيي تحت أي ظرف، وأنه لا جدوى من إجراء الاستفتاء بشأنها. ومن ثم، فإنه بعد انفصال الجنوب رسميا وتحوله إلى دولة مستقلة، ستصبح أبيي نقطة توتر دائمة بين الدولتين، ربما تتحول إلي "كشمير" أخري
2- ترسيم الحدود:
تعد مسألة الحدود بين الدولتين إحدى أهم قضايا الجدل بينهما، وتمتد لنحو 1950 كم. وطبقا لاتفاقية السلام الشامل، فقد تم اعتماد خط حدود الجنوب كما كان وقت الاستقلال في يناير 1956، كما اعتمدت اتفاقية أديس أبابا الخط نفسه في إطار المفاوضات التي عقدت عام 1972، وتشمل المناطق، المختلف عليها في سبع مناطق، أبرزها أبيي. وقد تم حسم 80% من ترسيم الحدود على الورق. ونظرا لأن البرلمان السوداني قد قام بتحديد الخط الحدودي الجنوبي، دون أن يعتمد في ذلك على عمليات مسوح بين الولايات، فقد ترتب على ذلك العديد من النزاعات، مع البدء في عملية وضع العلامات الحدودية على الأرض(22). وقد توقفت عمليات ترسيم الحدود بسبب إشكالية مدينة "كاكا" التجارية والنزاع حول تبعيتها. فالخرائط الحالية تظهر تبعيتها لأعالي النيل بالجنوب، ولكن في المقابل توجد وثيقتان صادرتان في عامي 1923و 1929، توضحان نقل مدينة كاكا التجارية من أعالي النيل بالجنوب إلي جنوب كردفان بالشمال، وهو ما لم تعترف به الحركة الشعبية. ويزيد من إشكالية ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب أنها تتم داخل بلد كان موحدا، على خلاف المعتاد في إفريقيا، حيث كانت يتم ترسيم الحدود بين دول مستقلة، وهو ما يجعل من هذه الحالة سابقة.
ويمكن القول إن الحركة الشعبية تعاملت مع القضايا الخلافية والشائكة بطريقة دبلوماسية، وتحلت ظاهريا بدرجات عالية من المرونة السياسية، حتى تنتهي بسلام من المرحلة الانتقالية. فكل ما كان يعنيها هو تجاوز هذه الفترة دون منغصات وعدم فتح جبهات صراع جديدة، تؤثر في عملية الاستفتاء، ومن ثم رحلت كل القضايا الخلافية - تقريبا -مع الخرطوم إلي مرحلة ما بعد الانفصال الرسمي وإعلان قيام الدولة، لإتاحة الفرصة للتفاوض من موقع دولة مقابل دولة، وليس دولة مقابل حركة، الأمر الذي سيعطي لجنوب السودان مزايا نسبية، أهمها الاحتماء بالقوانين الدولية في تسوية الملفات الخلافية. ومن ثم، فإن جولات التفاوض بين الدولتين ستتم على قواعد مغايرة تماما لما قبل الانفصال. وسيتوقف مستقبل العلاقات بينهما، إلي حد كبير، على كيفية تعامل البلدين مع المشكلات العالقة بينهما، ومدي قدرتهما على إيجاد إطار بناء لتسويتها.
صفوة القول إن مجمل هذه التحديات يستدعي من الشمال وضع استراتيجية ذات رؤية واقعية شاملة لمواجهة مرحلة ما بعد انفصال الجنوب، تأخذ في الحسبان تفاعلات الداخل وتناقضاته، وتربصات الخارج وضغوطاته.
*باحث متخصص في الشئون الإفريقية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.