كيف يمكن لفتاة عمياء أن تعتقد أن هذا الصعلوك المتشرد الذي اشترى منها وردا ولم يأخذ الباقي هو رجل غني يعاملها برقة ونبل!! الفكرة كانت محورية بقدر صعوبتها التي ستستلزم إعادة تصوير المشهد أكثر من 340 مرة كأكثر لقطة سينمائية تم إعادة تصويرها.
إنها مزيج من كوميديا الموقف وحالة الجذب الرومانسي، لكن هذا الأمر سيكلف شارلي شابلن عبقري السينما العالمية كما يسميه الكاتب البريطاني “برنارد شو” ستة اشهر للوصول الى اللقطة المرضية بالنسبة له.
الأمر متعلق أكثر بطبيعة هذا الأيقونة السينمائية وبفكره الخلاق وعنايته الشديدة بالمشهد والتي أخرجت منه تحفا من روائع السينما الخالدة مثل “Modern Times ” و “The Gold Rush” و “The Great Dictator” و “The Kid”.. وقبلها بالطبع فيلمه الأفضل والأشهر “أضواء المدينة/ City Lights” الذي تأخر اكتمال تصويره حتى اتمام هذه اللقطة مثار الحديث.
الحل جاء بذكاء مدهش مع احتفاظ هذا العبقري السينمائي بثيمته الأصلية حينما يصنع المفارقة الطريفة… في زحمة مرورية وحتى يتهرب من شرطي المرور يضطر شابلن لركوب سيارة فخمة من جهة والنزول من الجهة الأخرى المقابلة للرصيف في مواجهة تلك الفتاة العمياء لتعتقد حينها انه صاحب هذه السيارة الفخمة التي سمعتها من قبل وهي تقف بجانبها وحينما يشتري منها وردة وتقوم هي بالبحث في صندوق نقودها لترجع له الباقي يأتي صاحب السيارة الحقيقي ليركبها ويمضي فتعتقد انه قد ترك المتبقي من المال بلطف وكرم فيما يقف شابلن بجانبها يرقب كل ماحدث بهذه السرعة وقد تعلق قلبه برقة هذه الفتاة وجمالها..
كل هذا التزامن وصناعة الحدث الطريف بإنسيابية جميلة كان نتيجة عبقرية فنية تشعر بحجم مسؤوليتها تجاه اعمالها… ألم يقل شابلن يوما ما “معرفة ما يتوقعه الجمهور ثم القيام بشيء مختلف.. هو متعة كبيرة بالنسية لي”.
حينما تشاهد أفلام شابلن ستكتشف ان الأمر لم يكن مقتصرا على صناعة كوميديا ضاحكة فحسب تحقق مقولته الشهيرة “اليوم الذي لانضحك فيه هو يوم ضائع”! وانما يتجاوز هذا القالب المضحك الى ابراز معاني انسانية متعلقة بالاصطفاف وراء انسان الشارع الكادح تجاه برجوازية الافراد ورأسمالية الشركات التي تستهلك حياته واستثارة معاني الانسانية الحقة في طبيعة العلاقات البشرية.
وقبل صعود الحزب النازي واكتساحه اوربا كان شابلن قد قدم عام 1940 فيلمه الشهير “الدكتاتور العظيم” ساخرا من هذا الحزب وهتلر نفسه الذي منع الفيلم من دخول ألمانيا.
فيما على المستوى الكوميدي ستكتشف ان الكثير جدا من ثيمات الكوميديا وقولبتها التي نشاهدها الآن كان شابلن قد سبق في ابتكارها كما سبق في تقديم طريقة سردية وصناعة مشاهد سريالية وفانتازية مدهشة، فهو يؤمن حقا بصناعة عالم آخر تمشيا مع مقولته الفريدة (في اللحظة التي تشتري فيها تذكرة فأنت في عالم آخر).
سيظل شابلن اكثر الوجوه السينمائية المألوفة حتى لدى الذين لايهتمون للسينما ذاتها. فمن الذي يمكن ان يجهل ذلك الصعلوك المتشرد بسرواله الواسع وقبعته الطويلة وشنبه الصغير ومشيته المضحكة وهو يتكئ على عصا متعددة الاغراض بحركته السريعة (التي فرضتها ظروف التقنية وقتها).
ومنذ ان كنا صغارا كانت مشاهدة شابلن الصامتة بالأبيض والأسود احدى فقرات الكوميديا المضحكة التي يقدمها التلفزيون من دون ان نعلم انما هي مشاهد من افلام عظيمة تحتل مكانتها البارزة في التاريخ السينمائي وتضع مخرجها ومؤلفها وبطلها شارلي شابلن كأيقونة سينمائية خالدة.
هل كنا نبالغ في الحديث عن شابلن؟؟؟ هناك خمسة أدلة تشهد موضوعية كل هذا الحديث… هي افلامه الخمسة السابقة!! من فهد الاسطى