عالق في منتصف مدينة يقال لها "مدينة البؤساء"، استوطن فيها البؤس، واستفحل بلا هوادة، وفي ذات مرة لمحت طائرٌ سعيد، تعمد أن يرسم طريقاً له فوق تلك المدينة، فكان مع كل ذهاب له وإياب، يتعمد أن ينثر شيئاً من تلك السعادة التي يتمتع بها فوق أرجاء المدينة، وبين أزقتها، وهكذا، كُل يوم، حد أنني ولفته؛ بعد أن اعتاد كل البؤساء عليه و ولفوه. نفسه "طائرنا السعيد" كان يشعر بحال المدينة وهي تترنم بتلاحينه العذبة، التي كان يصدح بها مع صباح كل يوم، فما تلبث أن تظهر في أبها صورها، لا بؤس ولا شقاء، وكأن أرجاءها التحفت سعداً أبدياً منذ أن تعرفت على ذلك الطائر السعيد..
وعلى حين غفلة، ذلك الطائر السعيد لم يعد يصدر تلك الترانيم المألوفة، اكتفى فقط بأن يطير وهو يناظر تلك المدينة البائسة كل يوم، دون أن يرف له جفن..!
لقد اكتشفت اليوم بأن طائرنا السعيد ذاك، غلبت عليه غيرته المفرطة؛ ففي إحدى الأيام، وبينما هو في طريقة، يحلق فوق سماء تلك المدينة، صادف طائرٌ آخر، تفرد يصدح بصوته، فثارت عاطفته، وجاشت غيرته الساكنة بين جنبات جناحيه، واستدار فارداً جناحيه يبحث عن طريق العودة، بعد أن غلبت عليه غيرته وأفقدته جميع حواسه، حتى تلك الطريق التي أتى منها بالكاد تذكر معالمها..
طائرنا لو أنه استطاع أن يتحكم بنفسه، وكبح تلك الغيرة المفرطة، لعرف أن ذاك الطائر كان تائها، ولعرف أن صداحه ذاك كان يطلب فيه النجدة، ويبحث فيه عمن يرشده إلى سرب الطيور من رفاقه التي تخلف عنها..!