رحم الله أبا الأحرار حينما قال : يوما من الدهر لم تصنع أشعته ** شمس الضحى بل صنعناه بأيدينا . إنه يوم الثلاثين من نوفمبر المجيد 1967م ذلك اليوم الذي أشرق نهاره على وقع أقدام آخر جندي صليبي حاقد يغادر أرض جنوباليمن بعد إحتلال بغيض دام حوالي مائة وتسعة وعشرين عاماٌ . ذلك اليوم الذي انزاح فيه عن كاهل الشعب كابوس الكهنوت ورحل فيه ظلم الجبروت وانتهى فيه حكم الاستعمار الإرعن وحطموا فيه أغلال العبودية وتنفس فيه أبناء جنوباليمن عبق الحرية ... حقاً فذلك اليوم لم تصنعه الصدف وضروب الحظ ....وإنما صنعته عزيمة الرجال وسواعد الأبطال وهمم القادة . إنه يوم الحرية ,يوم الكرامة ,يوم طي صفحات كالحات من عمر الزمن . وهكذا هو حال اليمني الحر ... عشقاً لا متناهى للحرية .. وشوقاً لا حدود له للعزة.. وهياماً جموحاً للعيش الكريم ... لقد مثل يوم الثلاثين من نوفمبر 1967م تحولاً مفصيلاً في حياة الشعب كتب فصوله أولئك الأحرار بدمائهم الزكية وسطروا أحداثه بأشلائهم الطاهرة وضمنوا خاتمته بأرواحهم الندية ...فأهدوا تلك الأمانة الثقلية للشعب كي ينعم بالحرية والعزة والكرامة والعيش الرقيد وينهض بوطنه إلى مصافي البلدان المتطورة ويستفيد من ثرواته الطائلة .. تلك كانت أحلام أولئك العظماء الذين جادوا بأرواحهم لتحقيق ذلك . وهذه كانت أمانيهم بعد طرد الإنجليز . وذاك كان طموحهم في أن يروا وطنهم وقد استعاد عافيته وحيويته ونشاطه .. ولكن .. وآه من لكن ... حصل مالم يكن في الحسبان ... فالانجليز لم يرفعوا راية الاستسلام ...ولم تبارح آياديهم اللئيمة الزناد .. بل ظلوا يحيكون المؤامرات تلو المؤامرات ليفسدوا ذلك النصر المظفر وينتقموا من الثورة والثوار ويجهزوا على أحلام الشعب ... فما أن غادروا الباب حتى عادوا من النافذة وبطريقة أقبح وأبشع وأشنع وأفضع ... ففي الوقت الذي كان فيه الأحرار يلملمون أشلائهم ويضمدون جراحهم ويزيلون وعثاء الحرب عن كوالهم ويأخذون قسطا من الراحة ليواصلوا السير ... حصل مالم يكن في الحسبان .. حيث تسللت تلك الذئاب البشرية من النافذة الخلفية لتنقض على الفريسة المهيأة وتجهز على الثورة وتتخلص من الثوار وتقضي على تلك الأحلام الوردية والطموحات الرائعة والأهداف النبيلة ويغرسوا خنجرهم المسموم في القلب النابض بالحياة ليحدث فيه جرحاً دامياً ...لا يزال ينزف حتى هذه الساعة .. لقد استطاع أولئك الأوغاد أن يشعلوا نار الفتنة بين رفقاء السلاح ويذكوا أوارها وينفخوا شرارها ليدخل الشعب في فتنة عمياء قضت على روح الثورة وأجهزت على أحلام الثوار وعادت الأمور الى أسوأ مما كانت عليه .... وهنا أجدني أتذكر قول البردوني رحمه الله حينما قال : لماذا العدو القصى اقترب ؟ لأن القريب الحبيب اغترب لأن الفراغ اشتهى الامتلاء.. بشئ فجاء سوى المرتقب لأن الملقن واللاعبين ونظارة العرض هم من كتب لماذا استشاط زحام الرماد ؟ تذكر أعراقه فاضطرب لأن (أبا لهب) لم يمت وكل الذى مات ضوء اللهب فقام دخان مكان الضياء له ألف رأس وألف ذنب. رحمك الله أيها الشاعر الفيلسوف ... نعم لم يمت أبو لهب ... وإنما اختفى ضوء أبي لهب ...ليعود بنار تحرق الاخضر واليابس . وكنا جميعا يدا واحدة ... فصرنا الوفاً بلا مستقر .. وهكذا استطاع الاتجليزي الاوغاد الإجهاز على روح الثورة بزرع الشقاق والخلاف وتغذية الفتنة وإشعال نار العداوات وإيقاد الحروب الأهلية التي لا نزال نكتوي بنارها حتى يومنا هذا . ومع ذلك يبقى ألق الثورة يتوهج وتبقى ذكرى الاستقلال تحمل بين طياتها كثيرا من الحكايات والمعاني والدلالات وتبقى قضية الخلاص من التبعية والعبودية والتوق إلى الحرية قضية جوهرية لا تنازل عنها . فهكذا هي طبيعة الصراع بين الحق والباطل والخير والشر والحرية والاستعباد.. فكما أن النصراني الذي خرج مهزوماً مدحوراً من عدن لم يستسلم .. فيجب علينا نحن مواصلة مشوار الأحرار وتحقيق حلم الثوار حتى انتزاع حقوقنا والحصول على حريتنا والاستفادة من ثرواتنا وخيراتنا .. ما علينا عمله فقط هو الاستفادة من أخطائنا ورص صفوفنا ,والترفع على ذواتنا , وتوحيد كلمتنا , ولملمة شملنا , وتحقيق مبدأ أخوتنا , والاعتراف ببعضنا البعض وقبول كل منا بالآخر , وجعل مصلحة الوطن فوق كل اعتبار ,والتفكير الجدي في مصلحة الأجيال القادمة .. ونشير هنا إلى أن نجاح الثورات لا يقاس بفترة زمنية محددة ...وإنما يقاس بمدى جدية حاملي الثورة أنفسهم وبمدى إدراكهم للمخاطر المحدقة بهم , وكذا نضوج الظروف الموضوعية والذاتية المحيطة بها . إن ذكرى رحيل المستعمر تجعلنا نوقن بأنه لن يتحقق نصر حقيقي للشعب .... إلا برحيل الأنانية الذميمة , والمناطقية المقية , والحزبية البغيضة ,والمذهبية المميتة , والجهوية العفنة فكما تم طرد المستعمر لا بد من طرد تلك التشوهات في جسدنا حتى نتعافى لنكون قادرين على إحداث ثورة حقيقة.... في أفكارنا , وأخلاقنا , وسلوكنا ,ومعاملاتنا , وواقع حياتنا وذلك حتى نكون أهلاً لنيل المنجزات وتحقيق الأهداف والوصول إلى الغايات والارتقاء بالوطن لقد سئمنا الشعارات الجوفاء , ومللنا من الريات الرعناء... كفى عبثاً بدماء الأبرياء.. كفى إهداراً لمقدرات الشعب .. كفى تزييفاً لوعي المجتمع ... وحان الوقت لطي تلك الصفحات الموجعة , ووأد ذلك الماضي البغيض .. وفتح صفحات جديدة نسطرها بالصدق والحب والوفاء والأخوة والتعاون والتعاضد ...كي ينعم جنوبنا الحبيب بالأمن والأمان والسلام والوئام والازدهار والرخاء . أملي كبير في أن تلامس هذه الدعوة قلوب وضمائر ومشاعر كل من لديه القدرة على وقف هذا الجرح النازف لعقود طويلة ... لقد جربتم مبدأ الصراع منذ فجر الثورة ... فأرجوكم رجاءً أن تجربوا ...مبدأ السلام .. فليس هناك ما هو أجمل ولا أروع ولا أفضل من السلام.. السلام في الضمير .. السلام في القلب .. السلام في النفس .. السلام في الفكر ... السلام في الجوارح.. والسلام السلام الذي يرفرف على جنبات المجتمع . ولكم من القلب السلام