قبل حوالي ألفين وثلاث مائة عام ..سئل أرسطو فقيل له : أيهما أنفع للدولة .. يحكمها رجل فاضل جدا أم قانون جيد جدا ؟ فأجاب: قانون جيد جدا . وقد كان هذا الفيلسوف موفقا جدا جدا في هذه الإجابة .. ذلك أن أعمار الدول والحضارات لا تقاس بأعمار القادة ِ.. إذ أنه مها بلغ الرجل الفاضل من الصلاح ومهما أشاع في زمنه من قيم الحكم الرشيد فإن ذلك سيذهب مع موته لأنه هو المركتز الوحيد لذلك المجد الذي تحقق . فالحضارة الإنسانية عموما هي حصيلة تراكمات تتبناها وتتوارثها أجيال تلو أجيال ... وأهم ما يضمن ذلك الاستمرار هو تراكم البناء الحضاري لمنظومة القيم المثلى والمؤسسات الدستورية والتشريعات السليمة. ومن هنا تتعالى الدولة على هوى الحاكم الفرد وتتجاوز أفقه الضيق وحياته العابرة . وهذا ما أكده الفيلسوف الإنجليزي (جان لوك ) في القرن السابع عشر عندما قدم لوطنه رؤيته للخروج من حرب طاحنة استمرت لأكثر من أربعة عقود .. فكانت أول خطواته تتمثل في تجريد الاستبداد من الشرعية الدينية والتاريخية فهو يرى أن أس البلاء وأساسه يتمثل في الاستبداد المغلف بغطاء ديني أو إرث تاريخي لأسرة دون أخرى . فعمد إلى تقديم رسالتين مهمتين كخارطة طريق للخروج من ذلك الوضع المزري ...تمثلت الأولى في هدم الأساس الأخلاقي للاستبداد في ثقافة قومه . وكانت الثانية تتحدث عن العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم والمبني على حفظ الحقوق والحريات حيث بين فيها أن العقد الاجتماعي ( الدستور المتفق عليه من قبل جماهير الشعب ) هو المصدر الوحيد للشرعية السياسية . وكانت أفكار جون لوك ملهمة للفيلسوف والمفكر الامريكي ( توماس بين ) في القرن الثامن عشر والذي كان لها الأثر الكبير في نجاح الثورة الامريكية ِ وتلاهما المفكر والفيلسوف الفرنسي ( جان جاك روسو ) والذي اقتفى أثرهما وكانت أفكاره مصدر إلهام للثورة الفرنسية وقد اتفقت أفكارهم جميعا على ضرورة الخلاص من حكم الفرد تحت أي مسمى من المسميات والرجوع إلى عقد اجتماعي واضح المعالم بين المعاني يحتكم إليه كل من الحاكم والمحكوم ويجب على الكل الالتزام بنصوصه وعدم تجاوزها وبهذا استطاعت أوربا وأمريكا التخلص من نظام التبعية والملكية والصنمية الفردية وأن تبني أنظمتها على أسس واضحة وعقد اجتماعي متين يتناسب مع ظروف كل دولة ... وها هي شعوبها تنعم بالاستقرار منذ ذلك الزمن وحتى اليوم . وإذا كانت تلك جهود مفكرين وفلاسفة قبل الإسلام وبعده لإصلاح شؤون البلاد والعباد ... فإن تراثنا الإسلامي ليس بحاجة إلى جهود مثل أولئك المفكرين ...لأن التشريعات والأسس التي انبنى عليها النظام الإسلامي واضحة المعالم بينة الحدود تحدث عنها الرسول الأعظم فقال : (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزغ عنها إلا هالك ) . ولكن هناك طوائف وأشخاص وأسر تحاول عبثاً القفز على تلك التشريعات ولي أعناق النصوص بما يتماشى مع هواها ويحقق مصالحها ويعطيها الحق المطلق في حكم الناس والاستئثار بمقدرات الشعوب والاستيلاء على ثرواتهم .. مع أنه معلوم من الدين بالضرورة أن التشريعات الإسلامية لم تنص على حكم سلالة معين أو طائفة دون أخرى البتة. ولذلك لم يصرح النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بالخلافة لأحد من أصحابه إطلاقا ... وترك الأمر للشورى بين المسلمين , وجاءت التشريعات الإسلامية السياسية مرنة للغاية وبما يضمن لها الصمود في تغلبات الأزمنة ومعالجة القضايا الكبرى التي تفرضها الفلسفة السياسيه على المجتمعات البشرية مع التوصيف الواضح للمنصب السياسي وتحديد طبيعة العلاقات بين الحاكم والمحكوم وترك مساحات واسعة جداً للاجتهاد بما يحقق المصلحة العلياء للأمة وفقاً للأسس الأخلاقية والتشريعية للإسلام . ولذلك ما أصاب الأمة من بلاء ونكسات ومآس إلا بسبب التعدي على تلك الأسس السياسية التي تحدد طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم ... فمن الذي أعطى زيداً أو عمرو الحق في حكم الناس باسم سلالة أو قبيلة أو طائفة أو لافتة دينية أو حزبية أو أو..... فيستولي على رقاب الناس عقودا من الزمن فيحول المجتمع إلى ما يشبه الضيعة يتحكم فيها بهواه . ذلك لعمري تعد على شريعة الله في الأرض وهذا عين البلاء التي أصيبت به الأمة وانحرفت عن مسارها السوي فتعرضت للنكسات والمصائب والهزائم والتخلف والجهل والعقم في مختلف المجالات . وهكذا يتبين لنا بجلاء ووضوح خطورة التعدي على النظام السياسي لأنه الأساس الذي تنبني عليه سائر التشريعات الأخرى كونها مستمدة منه . فمن هنا وجب على الأمة اليوم الالتفات إلى خطورة التفريط في السياسة الشرعية وتركها للعابثين يعبثون بها كما يشاؤون ... وأكثر ما يحز في النفس أن تجد اليوم قادة الرأي ومن يعول عليهم في تنوير المجتمع ( علماء دين , دكاترة الجامعات , إعلاميين , سياسيين , مثقفين ) يعملون بجلد وشغف لتثبيت حكم الاستبداد فيصورون ذلك المستبد _ الذي يتربع على كرسي السلطة لعقود من الزمن دون حق شرعي ويبدد ثروات الشعب واستباح الأعراض والدماء ونشر الجهل وكمم الأفواه _ يصورونه وكأنه فريد عصره ووحيد زمانه , وصانع مجد أمته ... فأولئك أسوأ ألف مرة من ذلك المستبد ... لأنهم هم من يزورون وعي المجتمع ويزيفون الحقائق ويعملون على تثبيت حكمه مقابل لعاعة من لعاعات الدنيا . لذلك لن تسعد الشعوب إلا يوم أن تقضي على آفة الاستبداد وتحتكم لعقد اجتماعي واضح يرتضيه المجتمع وتتحقق من خلاله قيم العدل والحرية والمساواة والشورى وغيرها من القيم النبيلة التي دعت إليها الشريعة الغراء .