وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    وزارة الخدمة المدنية تعلن الأربعاء إجازة رسمية بمناسبة عيد العمال العالمي    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    واشنطن والسعودية قامتا بعمل مكثف بشأن التطبيع بين إسرائيل والمملكة    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    منازلة إنجليزية في مواجهة بايرن ميونخ وريال مدريد بنصف نهائي أبطال أوروبا    الهجري يترأس اجتماعاً للمجلس الأعلى للتحالف الوطني بعدن لمناقشة عدد من القضايا    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    وفاة ''محمد رمضان'' بعد إصابته بجلطة مرتين    الفريق علي محسن الأحمر ينعي أحمد مساعد حسين .. ويعزي الرئيس السابق ''هادي''    «الرياضة» تستعرض تجربتها في «الاستضافات العالمية» و«الكرة النسائية»    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    بين حسام حسن وكلوب.. هل اشترى صلاح من باعه؟    السعودية تكشف مدى تضررها من هجمات الحوثيين في البحر الأحمر    ريمة سَّكاب اليمن !    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    الشيخ هاني بن بريك يعدد عشرة أخطاء قاتلة لتنظيم إخوان المسلمين    حزب الرابطة أول من دعا إلى جنوب عربي فيدرالي عام 1956 (بيان)    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    عودة الحوثيين إلى الجنوب: خبير عسكري يحذر من "طريق سالكة"    "جيل الموت" يُحضّر في مراكز الحوثيين: صرخة نجاة من وكيل حقوق الإنسان!    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    يوميا .. إفراغ 14 مليون لتر إشعاعات نووية ومسرطنة في حضرموت    كل 13 دقيقة يموت طفل.. تقارير أممية: تفشٍّ كارثي لأمراض الأطفال في اليمن    طوارئ مارب تقر عدداً من الإجراءات لمواجهة كوارث السيول وتفشي الأمراض    البنك الإسلامي للتنمية يخصص نحو 418 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية جديدة في الدول الأعضاء    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    مشادة محمد صلاح وكلوب تبرز انفراط عقد ليفربول هذا الموسم    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المواطنة في الإسلام ..استقراء تاريخي
نشر في الصحوة نت يوم 16 - 11 - 2013

كلمة مواطنة على وزن مفاعلة مأخوذة من موطن، على وزن مَفْعِلْ. والموطن والوطن بمعنى واحد في التعابير القديمة.
قال الجوهري: الوطن المنزل الذي تقيم به، وزاد ابن منظور بأنه موطن الإنسان ومحلّه،(1) وقولهما يماثل ما قاله الفيروز آبادي بأنه: منزل الإقامة.
في الويكيبيديا: المواطنة هي الانتماء إلى مجتمع واحد يضمه بشكل عام رابط اجتماعي وسياسي وثقافي موحد في دولة معينة. وتبعا لنظرية جان جاك روسو "العقد الاجتماعي" المواطن له حقوق إنسانية يجب أن تقدم إليه وهو في نفس الوقت يحمل مجموعة من المسؤوليات الاجتماعية التي يلزم عليه تأديتها. وينبثق عن مصطلح المواطنة مصطلح "المواطن الفعال" وهو الفرد الذي يقوم بالمشاركة في رفع مستوى مجتمعه الحضاري عن طريق العمل الرسمي الذي ينتمي إليه أو العمل التطوعي. ونظرا لأهمية مصطلح المواطنة تقوم كثير من الدول الآن بالتعريف به وإبراز الحقوق التي يجب أن يملكها المواطنون كذلك المسؤوليات التي يجب على المواطن تأديتها تجاه المجتمع فضلا عن ترسيخ قيمة المواطن الفعال في نفوس المتعلمين.
في القانون يدل مصطلح المواطنة على وجود صلة بين الفرد و الدولة. وبموجب القانون الدولي المواطنة: مرادفة لمصطلح الجنسية، على الرغم من أنه قد يكون لهما معان مختلفة وفقا للقانون الوطني. والشخص الذي لا يملك المواطنة في أي دولة هو عديم الجنسية .
من خلال التعريفات السابقة نجد أن لفظة مواطنة وما تستتبعه من دلالات لفظية من الألفاظ المتصلة بها من المفاهيم التي شاعت مؤخرا في العصر الحديث، وارتبطت إلى حد كبير بعصر التنوير الأوربي، وتطور المفهوم قليلا قليلا بتطور بنية الفكر الأوربي ومفاهيم الديمقراطية وقيم الليبرالية والعلمانية التي مثلت حلا بالنسبة لهم من هيمنة الكنيسة، حتى أصبح يحمل المعنى الذي هو عليه اليوم في الذهنية العامة لدى المواطن الغربي بشكل عام بعد طول حروب وانتهاكات ونضالات هذه الشعوب، أفضت في نهاية الأمر إلى العديد من التشريعات الحقوقية والسياسية، أخذ بعضها طابع المحلية وأخذ البعض الآخر طابع العالمية، "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنموذجا" وسيظل المفهوم في تجدد مستمر مع الزمن ما دامت وسائل الحضارة متطورة، وربما أضافت العولمة خلال المراحل القادمة تغييرا جديدا في المفهوم على الصعيدين النظري والعملي معا.
أما عن المفهوم في ثقافتنا الإسلامية، فالواقع أنه لا يبتعد كثيرا عن المفهوم الغربي المعاصر والحديث من حيث الجانب النظري، وإن كان الواقع العملي شيئا آخر، بصرف النظر عن الجذر الذي نما منه لدى الطرفين، فالمفهوم لدى المسلمين مرجعيته الوحي الإلهي المقدس في الشريعة الإسلامية وتعاليمها الغراء، في الوقت الذي هو لدى الغرب خلاصة فكر ونضال وتجربة بشرية خالصة، أملتها الضرورة الإنسانية قبل السياسية من أجل التعايش والبقاء؛ ولذا فقد كانت أوروبا إلى قريب مسرحا لأبشع الحروب التاريخية التي عرفها التاريخ تكللت خلال النصف الأول من القرن العشرين بحربين عالميتين أكلت الأخضر واليابس حتى كان صوت العقل الإنساني في أزهى صور التعقل متمثلا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تم الإعلان عنه عقب هاتين الحربين إلى جانب مواثيق وإعلانات أخرى، كما سنفصل ذلك لاحقا..
لعل أول دستور يشير إلى مسألة المواطنة بصورة واضحة وجلية في الفكر الإسلامي هي وثيقة المدينة التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم حين وصل المدينة المنورة قادما من مكة كعقد دستوري بينه والمسلمين من جهة، وبين بقية الطوائف والجماعات من جهة أخرى، مع أن المفهوم نفسه لم يكن ذات دلالة جدلية أو محل نقاش وأخذ ورد كما هو الشأن عليه اليوم، هذه الوثيقة حددت منطلقات التعايش بين مختلف هذه الطوائف على أساسين اثنين: الجغرافيا، فالواجبات التي يترتب عليها الحقوق، وإن كانت الأخيرة لما تتبلور بعد في صورة أوضح كما هو الشأن اليوم، نظرا لأن مفهوم الدولة أصلا لما يتبلور بعد في الذهنية العامة لدى الجميع، ثم إن نموذج الدولة بمعناها الصحيح لم يكن في تصور أي أحد من الطرفين آنذاك، خاصة ما يسمى اليوم في بعض البلدان الغربية على وجه التحديد المواطنة المسئولة، المحددة بقوانين ولوائح ونظم، تحدد ما للمواطن وما عليه، منطلقة من أربعة أسس: الاحترام، التكافل الاجتماعي، حماية البيئة وتأهيل آلية الديمقراطية. هذه الأسس يمكن القول عنها أنها تقترب من حيث أهدافها الجامعة من الكليات الخمس في التشريع الإسلامي، وهي حق الفرد في حفظ النفس والمال والمعتقد والعقل والنسل. وقد عزز التشريع الإسلامي من خلال الوحي المنزل والنصوص النبوية بعد هذه الوثيقة خلال فترة تنزل الوحي وحياة الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجسدتها بعض أدبيات الفقه الإسلامي بعد ذلك، في الوقت الذي أساء البعض من الفقهاء فهم المقاصد العامة لها أو أملت عليهم السياسة إملاءات أخرى حرفت مسار المفهوم عن حقيقته، فرأينا في أدبيات بعض الفقهاء تقسيم المواطنين إلى أصناف ودرجات دون مبرر لها، استغلتها السلطات السياسية لتنفيذ أجندتها الخاصة، وبقيت للأسف جزءا من الثقافة الإسلامية إلى اليوم فتلقت قبولا ورواجا لدى بعض الفقهاء التقليديين إلى حد اعتبارها شريعة منزلة، مع أن تلك المفاهيم لم تعد ذات جدوى على الصعيد العملي اليوم وإن بقيت راسخة في أذهان البعض كثقافة!
"لقد كانت الوثيقة تقرر لمن يعقلها أن الآخر أيا كان العقدي أو الجغرافي أو السلالي أو الفكري هو سنة كونية لا يمكن إلغاؤها، وواقع اجتماعي لا يمكن تجاوزه، ولأن عدم الاعتراف بالآخر يعني التصارع معه، لكن الاعتراف به لا يعني الإيمان بما يحمله من فكر، ولا قسره على ترك ما يعتقد، بل الوصول معه إلى صيغ للتعاون تضمن حرية الجميع وأمن الكل، فلكل خياره والوطن للجميع"(2)
والواقع أننا لم نلحظ أي تمييز أبدا في هذه الوثيقة من خلال بنودها المعلنة والمتفق عليها بين سكان المدينة أبدا على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم وثقافاتهم حينها، كما هو الشأن في الفترات اللاحقة التي حصل فيها بعض التمايز القائم على أساس العرق والقبيلة والدين، وهذا من رواسب الثقافة الجاهلية في العقلية العربية لا من الدين نفسه، ومن المزاج السلطوي الخالص الذي فرضته إملاءات السياسة لا تعاليم الدين.
ونحاول هنا أولا استقراء المفهوم في الثقافة الإسلامية؛ إذ تمتلئ قواميس اللغة العربية قديما بكلمة "وطن" ومشتقاتها، لكني لم أجد من بين هذه المشتقات لفظ "المواطنة" كواحد من المشتقات والتي تأتي على وزن "مفاعلة" التي يمكن أن تأتي كثير من المشتقات على غرارها من جذور أخرى.
والحقيقة أن غياب هذا اللفظ مرتبط تماما بغياب المفهوم العام لمدلول المواطنة في الوعي الجمعي المتشكل حينها من ثقافة الصحراء والقبيلة والخيل والرعي.. إلخ والمسيطرة على الذهنية العامة..
المواطنة من المفاعلة والتي ترمز إلى ممارسة فعل ما من طرفين اثنين هما: [السلطة المواطن] لم تتجسد في الذهن أو في التصور سابقا؛ لأن التصور العام للمواطنة يقتصر على نمط معين ومحدد من العلاقة بين الطرفين هي علاقة الولاء على الطريقة المعروفة آنذاك فقط، وتتمثل من جانب المواطن في دفع الإتاوات والضرائب والنفير مع القوم إذا ما دقت الحرب طبولها أو اشتعلت نيرانها، فيما تكاد تنحصر من قبل الدولة على مفهوم محدد هو كف الأذى عنه والانتصاف له من أخيه المواطن حال الاشتجار أو الخلاف بينهما؛ أما الانتصاف له من السلطة نفسها فلا يوجد لا في ذهن المواطن ولا في ذهن السلطة على حد سواء، وفي خطاب الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخوارج ما يوضح هذا المعنى بصورة أجلى؛ حيث خاطبهم: "لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله، ولا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء" والمتأمل في فلسفة الخطاب وهو خطاب محكوم بفلسفة الزمان والمكان نفسه يجده مجسدا للصورة التي ذكرناها، لنستطيع القول إن حق المواطن على السلطة كان يتمثل في الحق "الكفِّي" فقط، وهو حق يقتصر على عدم إلحاق الأذى به لاغير!
المواطنة حسب مدلولات قواميس ومعاجم اللغة العربية قديما ارتباط بالمكان فقط في صورة تشي إلى مدى الانفصال الكائن بما حوله، وهي من وجه آخر تعني: "رعوي" مفرد "رعايا" وبالمفهوم التاريخي السلبي الذي انطبع في الذهنية العامة، وتحول من حيث المدلول اللغوي المباشر الذي يحتمل قدرا من الإيجابية في المدلول إلى مجرد مفهوم "التابع" لسيده لا أقل ولا أكثر! تلك الكلمة التي اشتهرت على مدى قرون طويلة بصيغتها الجمعية "رعايا" لا تكاد تعني على وجه أدق غير ما ذكرنا في المفهوم "تابع"!
ولهذا السبب، ولتجذر مفهوم المواطنة بصورته السلبية قديما تقلصت وغابت ثقافة الحقوق الدستورية من ذهنية الكثير من الناس بمن فيهم الفقهاء وعلماء الدين كطلائع نخبوية وفئات تنويرية في المجتمع حتى أصبح مجرد المشاركة في الحكم من قبل بعض الشخصيات التي تأهلت لذلك وفي منصب صغير أو كبير هو منحة ومكرمة من الحاكم لهذا الرجل الذي أصبح ينظر إليه وكأنه ولي نعمته لا يستطيع مخالفته في أدنى عمل حتى وإن كان الحاكم مخطئا، كما هو الشأن نفسه بالنسبة للحاكم الذي رأى في من عيَّنه مجرد أجير عنده لا يحق له المخالفة أو الاعتراض.. وللأسف فهذا المفهوم لا يزال متجذرا في الوعي الجمعي والذهنية العامة حتى اليوم بالنسبة للعربي الذي لم يستطع الفكاك عن أسر ثقافة القائد الواحد والأوحد والأعظم والأول والأكبر، كما لم يتبلور مفهوم المواطنة بالصورة الإيجابية السائدة التي عليها لدى مواطن الغرب، ولا يزال التصور السائد حتى اليوم امتدادا لتصور الأمس بماضويته وتقليديته، بمعنى أن المفهوم "الكفِّي" هو المفهوم الذي لا يزال سائدا في ذهنية البعض.
في تقديري أن شرط "الكرم" في الخليفة أو الإمام حسب شروط المذهب الزيدي على وجه أدق سابقا الذي وضعه الفقهاء ضمن عدة شروط له مغزاه الدقيق ومبرره الموضوعي المتصل بظروف اللحظة التاريخية التي أنتجت مفهوم المواطنة على النحو الذي ساد حينها؛ حيث كان الإمام أو الخليفة ممسكا بكل شيء من تعيين قائد الجيش إلى توزيع أصواع البر والشعير، وكانت "المؤسساتية" خارج نطاق التصور على الصعيد النظري والعملي معا؛ إذ يتعدى بخل الإمام كجبلة أو طبع في سلوكه إلى إلحاق الضرر بالآخرين، خلاف ما إذا اتسم بصفة العطاء والكرم والتسامح الذي يتعدى نفعه إلى الآخر، وهو شرط كما أسلفت موضوعي "ديالكتيكي" أنتجته طبيعة التصور العام لمفهوم المواطنة السائد آنذاك وفلسفة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، يفقد موضوعيته وجدواه في ظل المؤسساتية والدستورية التي يُعتبر الرجل الأول فيها مديرا لا حاكما، وأشبه ما يكون بمؤشر الساعة، قد يستوي فيه البخل والكرم بالنسبة للآخرين؛ إذ لا يترتب على بخله حرمان أحد، كما لا يترتب على كرمه استفادة آخرى، بمعنى أن حقوق الناس قد أصبحت مرتبطة بالمؤسسة لا بالشخص، لنستطيع القول على ضوء ذلك إن شرط الكرم حاليا أصبح من التاريخ لا من الحاضر.
ولما سبق أيضا من الأسباب المرتبطة بالتصور السائد لفكرة المواطنة قديما فإن بعضا ممن تبلورت لديهم الفكرة الصحيحة لمفهوم المواطنة في الدولة الإسلامية ولحقيقة العلاقة بين الحاكم والمحكوم بمفهومها الإيجابي قد قادهم الأمر إلى القيام بالخروج على الحاكم أو بما يسمى اليوم بحركة الانقلاب المسلح، وقد غلبت عليهم "النَّزعة الطهورية" في التصور العام لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فظهرت عدة حركات أو انقلابات مسلحة مارست العنف في فترات متقطعة خلال الثلاثة القرون الهجرية الأولى وكلها تقريبا لم تنجح في انقلاباتها على عدالة قضيتها، وعلى الرغم من تعاطف الكثير معها.. "حركة الإمام الفقيه أحمد بن نصر الخزاعي في عهد الخليفة الواثق في العصر العباسي أنموذجاً" وقبله حركة ابن الأشعث في العهد الأموي. وأيضا على الرغم من الظلم الذي حاق بها خاصة ممن عرفوا في المجتمع الإسلامي بالموالي وكانوا يمثلون شريحة واسعة؛ فقد حُرموا حق المواطنة المتساوية في عهد الأمويين كحرمانهم من أعطيات ديوان الجند إلا في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ بل وعدم مساواتهم بإخوانهم المسلمين وفقا لما تقتضيه تعاليم الإسلام، في عدم تزويج أحدهم من امرأة عربية أو حتى الصلاة بعدهم إلى حد انتحال الأحاديث التي تنتقص من آدميتهم!! وكذا حرمانهم من وظائف الدولة الكبيرة والمتوسطة؛ فاتجه كثير منهم إلى أربطة العلم وكتاتيبه، ولذا نجد أغلب العلماء قديما هم من الموالي والمولدين!!
هذه الجماعات الصغيرة التي تشكلت بين الحين والآخر كانت تملك تصورا سليما أو أقرب إليه على الصعيد النظري لمفهوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أي كانت تملك مشروعا للتغيير هو أفضل من النماذج التي كانت قائمة آنذاك؛ لكنها لا تملك آلية الوصول إلى السلطة لتنفيذ المشروع، فكانت الانقلابات هي أقصر الطرق إليها؛ أو قل أوحدها، خاصة وقد جسدتها في مراحل متأخرة بجواز إمامة المتغلب، وإن كان مفهوم التغلب قديما غير التغلب اليوم، ويختلف عنه في الآلية والكيفية والنوع ليس هذا مجال تفصيله. ولهذا نلاحظ همود وتراجع ما يمكن أن نسميه اليوم بحركات التحرر ضد الاستبداد منذ القرن الثالث الهجري وما بعده بعد أن قامت ستة وستون ثورة وانقلابا خلال ثلاثمائة سنة تقريبا ابتداء من ثورة الإمام الحسين ضد يزيد بن معاوية وما تبعها من انقلابات وثورات، هذا الهمود والسكون كان نتاج يأس وإحباط أصاب النخبة الثقافية المتمثلة في بعض الفقهاء، وطلائع التنوير المتمثلة في الفلاسفة وأتباعهم بعد سلسلة طويلة من الانقلابات والثورات الفاشلة، فكانت النتيجة أن أفضى الأمر إلى ممارسة "التقية" عند الشيعة، وأيضا تحريم الخروج نهائيا وتكفير الخارجين بصورة لم تكن موجودة في أدبيات الفقهاء وعلماء الدين خلال المراحل التي سبقتها عند أهل السنة، وكان في النهاية الارتكاس الحضاري كمسلمة حتمية لمجمل الصراعات الداخلية في الدولة التي كانت رد فعل لصور شتى من الظلم والاستبداد.
أتكلم عن هذا المفهوم الذي يغلب عليه الجانب السلبي باعتباره الذي ساد واستحكم لفترة طويلة ولا تزال بعض من معالمه موجودة اليوم وإن أقل، وإلا فقد شهدت فترة صدر الإسلام والخلافة الراشدة تطورات هائلة لا في هذا المجال فقط؛ بل في مجالات متعددة، وقصة عمر والثوب "من أين لك الثوبان يا عمر"؟ أرقى مشهد حضاري وأنصع صورة لمفهوم المواطنة التي من أهم معالمها حق المساءلة الشعبية إلى جانب حق المشاركة وحق المراقبة، ومواقف أخرى كثيرة أيضا تجسدت في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن بعدها اختفى هذا المفهوم إلا في أضيق نطاق وعلى استحياء بعد ذلك حتى نهاية الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر وقد تأثرت بعصر التنوير الأوروبي فسنت القوانين المتعلقة بالحقوق العامة والمساواة بما يتوازى مع المساواة في الغرب وبصبغة إسلامية نقية..
هذا عن مفهوم المواطنة قديما، فماذا عن المفهوم اليوم؟
الواقع أن الحديث عن مفهوم المواطنة اليوم قد أصبح واحدا ومتشابها إلى حد ما في أنحاء المعمورة، وخاصة مع شيوع المواثيق الدولية وانتشارها، وقد أخذت طابع الإلزامية العالمية لكثير من الشعوب، وأعتقد أن لذلك علاقة وثيقة بنشوء المدنية ومفهوم الحضارة؛ لأن مفهوم المواطنة على النحو الإيجابي لم يتبلور إلا بعد نشوء المدينة واستقرارها، قديما وحديثا، وكلما أوغلت الدولة في المدنية والحضارة تطور المفهوم إيجابيا، والعكس أيضا صحيح.
مفهوم المواطنة في الغرب
لا يختلف مفهوم المواطنة في الغرب عنه لدى العرب كثيرا الآن بصرف النظر عن المراحل التي مر بها عند الطرفين؛ فقد وصل المفهوم لدى الغرب إلى دلالة أوسع وأرحب على الصعيد النظري، وإلى واقع ملموس على الصعيد العملي واقترب منه الأمر لدى العربي إلى حد ما وإن من طريق آخر.
ففي الغرب قديما وتحديدا عند اليونان نما المفهوم مبكرا، وتطور بتطور الفلسفة التي عرفت بها عاصمتها أثينا وانتشار المدارس والأكاديميات، ومع تكون ونشوء المدينة على نحو حضاري ومدني حينها قبل الميلاد بقرون، فأول تعريف للمواطنة تقريبا نجده لدى أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حين عرَّف المواطَنة بقوله: "المواطنة بالمعنى المطلق للكلمة لا يمكن تحديده بسمة أفضل من المشاركة في الوظائف الحقوقية والوظائف العامة بشكل عام" وكان ذلك بالفعل على الصعيد العملي ولكن ليس لكل الفئات الموجودة في الشعب، مع الإشارة هنا إلى أن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أن حق المواطنة آنذاك لا يمكن اكتسابه عن طريق الولادة الشرعية في المكان؛ إنما عن طريق امتلاك العقار كشرط ضروري للحصول على حق المواطنة الكاملة، وهو ما سار عليه الأمر زمنا طويلا في اسبرطة، وبالتالي حُرم منه كثير من غير المالكين في المجتمع الاسبرطي حقوقهم، ومن بين ذلك الأغلبية الغالبة من النساء اللاتي كن يُورَثن ويمُنعن من المشاركة العامة وكانت الثقافة السائدة حينها أن المرأة الشريفة لا يسعها إلا بيتها؛ إذ لا يليق الخروج إلى الشارع بالمرأة الشريفة!! كما هو الشأن نفسه أيضا إبان ازدهار مجد الإمبراطورية الرومانية خلال القرنين الثالث والرابع الميلاديين، ابتداء من عهد الإمبراطور قسطنطين الأكبر فما بعده، غير أن المفهوم لم يشمل الأقليات الأخرى غير الرومانية في المجتمع الروماني من مثل اليهود على وجه التحديد الذين نكَّل بهم الإمبراطور بعد أن اعتمد المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الواسعة التي توحدت شرقا وغربا لأول مرة على يده، وقد بدأ التراجع في المفهوم ينحسر بعد ذلك ليس في الإمبراطورية الرومانية فحسب؛ بل في أنحاء أوروبا، وخاصة منذ بداية عصور الإقطاع الأوروبي وسيطرة طبقة النبلاء على مقاليد الأمور بصورة وحشية مدة طويلة، وهو ما أفضى في النهاية إلى تحول جديد مع بداية عصور النهضة الأوروبية منذ القرن السادس عشر الميلادي فما بعده؛ حيث شهد المجتمع مخاضات عسيرة في عملية التحول باتجاه الحضارة والمدنية انقلبت مع هذا التحول كافة الموازين الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية حتى وصل الأمر إلى ما هو عليه اليوم.
وقد ظهرت لأول مرة في العام 1689م وثيقة الحقوق العامة في انجلترا وتبعتها عرائض ووثائق أخرى لم يكن آخرها الإعلان الدولي لحقوق الإنسان عام 1948م وإن كان يحمل طابع العالمية إلا أنه أوروبي الفكرة والمولد..
فالمفهوم السائد اليوم في أوروبا هو في حقيقته امتداد للمفهوم الفلسفي والثقافي الذي وضع أسسه فلاسفة عصور التنوير من أمثال مارتن لوثر كنج، وجون كالفن، وجون لوك، الذي يعتبر من أوائل من أرسى قواعد ومبادئ الديمقراطية الدستورية، وتأثر بها كثيرا بعد ذلك فلاسفة الثورة الفرنسية من أمثال فولتير وجان جاك روسو، وأيضا مونتسكيو وجورج برناردشو وغيرهم، وقد أصبح مفهوم المواطنة في أوروبا اليوم يعني تحديدا تشارك طرفين متوازيين هما السلطة والمواطن في الحياة العامة بصورة إجمالية ومن منطلق أن لكل طرف على الآخر واجبات وله مقابلها حقوق، إلا أن ثمة إشارة مهمة يجدر التنبيه إليها وعادة ما يتجاوزها الكثير من الكتاب والمفكرين في هذا الجانب وهي أن التحولات الجديدة في المنظومة التشريعية للرأسمالية المعاصرة قد أثرت سلبا على مفهوم المواطنة بطريقة غير مباشرة؛ حيث سلبت الرأسمالية المفتوحة وأعني بها المتحررة من تدخلات الحكومات وإفلاتها من كل الضوابط الأخلاقية مبدأ المساواة العامة بين المواطنين ليس في الجانب الاقتصادي فحسب؛ بل وفي مختلف الجوانب؛ حيث لم يعد بوسع الطبقة المحدودة الدخل المشاركة السياسية مثلا على نحو فاعل كما كان سابقا بعد أن أصبحت المادة نفسها أحد عوامل القفز السياسي والتغلب الاجتماعي وخاصة في مجتمع يقدس المادة والمنفعة بصورة لم يكن لها وجود من قبل، ومما هو كائن اليوم فإن الرأسمالية المتوحشة قد زادت الغني غنىً والفقير فقراً، وجاءت مؤخرا العولمة بمفهومها المنحاز أيضا التي لا يصيب من خيراتها إلا القوي وبقدر قوته؛ أما ضررها فلا يصيب إلا الأضعف منفردا فقط!!
هذا السطو العنيف من قبل الرأسمالية المتوحشة جاء نتاج تحولات اقتصادية في حركة السوق بلا رقيب من قبل الدولة لم يصاحبه تحول جديد في مفهوم المواطنة؛ إذ بقي المفهوم على نمطه الكلاسيكي الذي تبلور بعد مخاضات عدة عقب الحرب العالمية الثانية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م. وهو في حقيقته مفهوم إيجابي، والأصل أن تقاس عليه المفاهيم الأخرى في الاقتصاد والسياسة وغيرهما، وتصبح تابعة له بدلا من أن يكون تابعا لها، وإن كان الأمر يقتضي إعادة النظر في صياغة المفهوم بعد تغول ثقافة العولمة التي تجتاح أخص الخصوصيات لأي إنسان على ظهر البسيطة، بحيث يتعدى مفهوم المواطنة البعد القومي أو القطري الذي كان حاضرا إبان تشكل أو تعملق الدولة القطرية أو القومية خلال العقود الأولى وما بعدها من القرن الماضي إلى البعد الكوني العالمي الذي تتجه إليه العولمة اليوم.
أخيرا: مفهوم المواطنة متغير وجدلي محكوم بفلسفة الزمان والمكان كما أسلفنا، إلا أنه في جذره الأصلي لا يتجاوز ثلاثة حقوق رئيسة يدور حولها في الغالب، وهي على الصعيد السياسي حق المشاركة في الحكم، وحق المساءلة للحكام، وحق الرقابة عليهم؛ فيما هو على الصعيد الاجتماعي حق العيش بأمان، والأمان أو الأمن هنا بمفهومه الواسع شاملا الأمن النفسي، والأمن الغذائي، والأمن الثقافي، مقابل واجبات يقوم بها تجاه دولته تختلف تفاصيلها من نظام إلى آخر ومن زمن إلى زمن. وربما أضافت لنا العولمة حقوقا أخرى لمَّا تتشكل معالمها حتى الآن على مختلف المجالات إلا أن هذا لا يزال رهنا بوفاق عالمي يقتضي أولا اعتراف الأقوى بحق الآخر وتمكينه من ممارسة حقه بلا تدخل أو وصاية أو فرض رؤى وتصورات على أحد. وبصورة أجلى فإن مفهوم المواطنة اليوم قد أفضى إلى أن أصبح يعني " انتماء الإنسان إلى دولة إقليمية معينة. فهي تتطلب وجود دولة بالمعنى الحديث، ووجود وطن ذي أنشطة وفعالية أو إقليم محدد، وعلاقة اجتماعية بين الفرد والدولة، والتزام بالتعايش السلمي بين أفراد المجتمع، ومشاركة في الحقوق والواجبات، واحترام نظام الدولة وعلاقته بالحاكم على المستوى الدستوري والقانوني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فيعبر المواطن في الدولة عن رأيه ومصالحة بحرية في مظلة ضمانات مقررة"(3)


1 ابن منظور : أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم : لسان العرب : دار صادر ، بيروت ، 1956 م .
2 المواطنة المتساوية في الإسلام، محمد اللطيفي، 117.
3 مجلة التسامح العمانية، العدد 15، وهبة الزحيلي،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.