تتوقع أن بعض المواقع والصحف المحترمة تعرف الحدود الفاصلة بينها وبين صحف التابلويد فتحافظ على مكانتها ولا تهبط إلى مستواها. ولكن الواحد منا يتفاجئ أن مثل هذه الحدود التي كنا نعتقد أنها مقدسة أصبحت على خلاف ذلك. من الممكن لأي كاتب أن يهبط بالجريدة أو المجلة إلى القاع من دون أن يقول له أحد قف من فضلك!
لدي أمثلة عديدة على ذلك. على سبيل المثال نشر الصحافي كمال قبيسي في موقع قناة العربية المحترم تقريرا عن الفتاة المصرية الصغيرة ماجدة المهدي التي تعرت بالكامل ونشرت صورها على مدوّنتها. التقرير قام على الفور بخدش مكانة الموقع الذي يتفوق على غيره من المواقع بالمتابعة النشطة للأخبار والتقارير.
ماجدة المهدي التقرير الذي جاء بعنوان “6 أبريل تنفي علاقتها بمصرية نشرت صورتها عارية تماماً على الإنترنت” هدفه فقط الإثارة الرخيصة من أجل جذب أكبر عدد من القراء وهذه هو حال الصحف الصفراء. صحيح أن الصحف الصفراء تجذب قراء أكثر ولكن الكل يعرف أنها بلا قيمة ولا مبادئ. لو تأمّلتم التقرير سريعا فستجدون أنه يخلو تماما من أي متابعة صحفية حقيقية تعتمد على البحث والتحقيق وفهم هذه القصة في سياقها.
وبالتأكيد هي تخلو من أي مصادر صحفية تعطي مصداقية للقصة باستثناء صفحة المهدي على الفيس بوك وشرح للصور التي ليست بحاجة الى شرح لأن الكل يشاهدها. القصة مجرد تنويعة من التعابير الإنشائية على قصة هذه الفتاة المراهقة ولا شيء أكثر من ذلك. السماح بنشر هكذا مواضيع لا تضبطها المعايير الصحفية لا تصلح للنشر في المواقع المحترمة.
المثل الثاني الذي تابعته أخيرا نشر في جريدة الرياض السعودية وهو عبارة عن تقرير يتحدث عن نفور الرجال السعوديين من النساء السعوديات بسبب -والله أشعر بالخجل وأنا أقولها- ركبهن سود. التقرير جاء بعنوان “الركب السوداء.. النظرة السائدة تحرج وتقلق الجنس اللطيف”.. في الحقيقة أصبت بالاشمئزاز الشديد من مجرد فكرة التحقيق ولكن الجريدة تكرمت أيضا بنشر صور مقززة لركب رجال وليس لنساء.
على الأقل إذا كان الموضوع يخص النساء لماذا نشر صورة ركب الرجال!!. لا أرغب في الحديث أكثر لأن الموضوع بحد ذاته مزعج ولكنه يؤكد ما قلته ويزعجني جدا وهو انزلاق الصحف المحترمة في نشر تقارير غير ملائمة حتى للصحف الصفراء.
الركب السود بحسب جريدة الرياض؟! المؤسف أكثر هو انسياق عدد كبير من الكتاب في السعودية للضرب على وتر هذه المواضيع بهدف كسب عدد أكبر من القراء وتلقي الردود وفي هذا السياق يخسر الكاتب قيمته تدريجيا وتنزل الصحيفة أو المجلة من مكانتها. وفي عالم الصحافة أخطر شيء تقوم به مطبوعة هي أن تقامر بسمعتها المهنية لأنها اذا خسرتها فمن الصعوبة البالغة استعادتها من جديد.
لا يعني هذا أن الصحافة يجب أن تبقى بعيدة ومنعزلة عن الواقع ولكن مهمة الصحافة المحترمة هي أن تقدم للقارئ نظرة متعمقة للظواهر والأحداث وتقدمها في إطار صحفي سلس حقيقي ينقب ويبحث ويتابع. لو كانت المسألة قصص مجالس فمن الممكن أن يتحول أي شخص حكواتي إلى صحفي وكاتب وكفى الله المؤمنين شر القتال!!.
لو أردنا أن نضرب أمثلة من الناحية الثانية فسأقول إن موقع قناة السي أن أن بنسخته الأمريكية يغطي الكثير من القصص ولكنه دائما يعطيها بعدا أعمق مما تبدو عليه. من ذكرياتي التي تثبت وجهة النظر هذه هي أن الفليسوف الفرنسي برنارد ليفي كتب في إحدى المرات تقريرا جميلا عن مدينة لاس فيجاس الأمر الذي يجعل القارئ يفهمها أكثر. لم يقف عند السطح ويتحدث عن صالات القمار والملاهي الليلية ولكنه غاص في الأعماق. هذه ميزة الصحافة المحترمة تتناول القضايا التي تبدو محسومة وتعيد تركيبها من جديد.