كنت دوما أتساءل : كيف اضاع اخوتنا العمانيين جزيرة القرنفل " زنجبار " ؟ لكنني وبعيد قراءتي لمذكرات الاميرة سالمه بنت سعيد سلطان حاكم مسقطوزنجبار - " مذكرات أميرة عربية " ترجمها عن الالمانية عبدالمجيد حسيب القيسي – صرت على الاقل مدركا وملما بخلفية الصراع الاخوي على حكم الجزيرة بعد وفاة ابيهم السلطان سعيد تاركا وراءه خمسة وثلاثون ابنا جميعهم من الجواري والاماءات البالغ عددهن 75جارية وإماء تملكهن او اشتراهن فيما الزوجة الشرعية الوحيدة فكانت عزة بنت سيف وهي من عائلة السلطان في عُمان فمن سوء قدرها أنها عاقر عن انجاب . بالطبع مذكرات الاميرة كانت قد تكفلت اليونسكو بطباعتها مترجمة عن اللغة الالمانية وذلك ضمن مشروع المنظمة " كتاب في جريدة " لماذا نقلا عن الالمانية ؟ فلأن الاميرة الطيبة الرقيقة المحظية بحنان وعطف ورعاية والدها السلطان وكذا أمها الجارية الشركسية الفائضة طيبة وجمالا لم تستطع تحمل تبعات موقفها العاطفي الخاطئ حين انقسم الاشقاء ما بين داعم ومناصر لوريث السلطنة الجديد ماجد وبين داعم ومؤيد لشقيقه الامير برغش .
إذ كانت قد احبت شاب ألماني اشتغل حينها تاجرا في الجزيرة وزادت بهربها وباقترانها به في أحدى كنائس مدينة عدن التي سبقت الشاب إليها وفيها جرت مراسيم زواجها وفقا وطقوس كنسية أنغليكانية وبعد ان استبدلت أسمها ب " إميلي روث " ومن عدن اقلتها سفينة الى المانيا موطنها
الاميرة نشرت مذكراتها هذه باللغة الالمانية سنة 1886م قبل ترجمتها ونشرها باللغتين الانكليزية والفرنسية في مرحلة تالية فيما الى العربية كانت قد انتظرت زمنا طويلا . لا أخفي اعجابي بما دونه مقدم الكتاب محمد مظلوم من لغة ساحرة جاذبة آسرة أضفت على طبعتها العربية رونقا وجمالا .
فيكفي هنا الاشارة الى ربطه البديع بين الحقيقة والاسطورة : ربما مثلت حياة سالمة بنت سعيد ، وفرارها بالذات ، نوعا من الاسطورة ، الممزوجة بالخيال الشعبي المتوارث عادة ، في المأثورات الشفافية . فمن اسطورة اوروبا الفينيقية وهي تهرب على كتف الإله الاغريقي زوس متنكرا بهيئة ثور على ساحل الشام ، ليطير بها عبر المتوسط ، وينشئ قارة اخرى ، الى حكاية الحسناء في بلاد النهرين التي هربت مع الانجليزي الغامض ، وهي حكاية تتكرر مرة اخرى ، تتحرك دائرة الاساطير لتشمل قصة فرار الاميرة العربية مع التاجر الالماني " زوس الجديد " عبر البحار لتنجب منه جيلا أخر" .
نعم ومثلما كان فرار الاميرة من زنجبار معادلا لبداية معضلة ادت فيما بعد الى انفصال الجزيرة عن عمان ، إنه قصة تشبه ضياع الاندلس قبل قرون من الزمن ولذات السبب الناتج عن تناحر امرائها العرب الذين اعماهم السلطان وفرقهم واضاع ملكهم نهمهم الكبير على المال والثروة والنساء الغانيات ، كما وبسبب تسلطهم وافراطهم في اضطهاد واستعباد الاخر كان قد وفر على مناوئيهم عناء الجهد والوقت إذ سرعان ما تساقطت امارات الحكم العربي واحدة تلو الاخرى وبما يشبه انفراط عقد المسبحة .
وعودة لسيرة الاميرة العربية المولودة سنة 1844م والمتوفاة عام 1922م ؛ فمما لا شك فيه أن ما سطرته من صفحات قصدت بها مخاطبة المجتمعات الغربية إلا انني وبعيد قراءتي لها لا اخفي اعجابي ودهشتي وحيرتي في آن ،فإما اعجابي فنابع من قدرتها الفائقة على التعبير عن ذاتها ومجتمعها وفي لغة ادبية شاعرية مضمخة بالعاطفة والشوق والحنين الجارف لموطنها ولقومها .
فبرغم قساوة الزمن ، ومتاعب المكان ، وعذابات البعاد والاغتراب ليس عن الموطن والاهل وإنما تعدى الامر الى اللغة والمعتقد والمكان والحياة ؛ إلا ان ما دونته من ذكريات بديعة متيمة ولعة بسحر الشرق وبناسه وكرمهم ، وعطفهم ، وتدينهم ، وشهامتهم ، ناهيك عن اعترافها الصادق بكونها قد اسهمت وبغباء وسذاجة في انقاذ حياة شقيقها الجشع النهم " برغش " وفي تمكينه من الحكم عقب وفاة شقيقها السلطان العادل المحب المتسامح " ماجد " بكل تأكيد مدعاة للدهشة والاعجاب .
فهذا الاعتراف المتأخر بالذنب وطلب صاحبته بالصفح والغفران أعده حالة تستحق الاعجاب فقالما ندر الاعتراف بالخطاء في ثقافتنا الضائقة المقاومة وبصلف لمثل هكذا اعتراف وتأنيب ؛ لكن وعلى ما يبدو في الذكريات من احاسيس صادقة طافحة بالمشاعر الانسانية غير مخاتلة أن كاتبتها تأثرت كثيرا بمحيطها الغربي وبقيمه السافرة المبغضة لمكنونات المجتمعات الشرقية .
إما دهشتي وحيرتي فمن جرأة الاميرة الكاسرة للواقع الشرقي المحافظ المسيج بعازل فولاذي من التقاليد والاعراف المانعة دون محادثة الانثى لصنوها الرجل الشرقي ؛ فكيف إذا ما قلنا بفرار وزواج واعتناق دين أخر ، فهذه الاشياء وقعت في منتصف القرن التاسع عشر كما والفاعل هنا فتاة عربية مدللة وثرية ، وفوق ذلك اميرة مترعة بالحنان والزهد والتدين والحياة الخالية من الأوصاب والحرمان والجهل والفقر وسواها من الاشياء التي بسببها تنصر جياع افريقيا ، وبسببها - ايضا - كفر الكثير .
نعم دهشت واحترت من دفاع المرأة المستميت عن الشرق واهله ومعتقده وحتى رقه وعبوديته للجنس الاخر وللون الاخر وللدين الاخر ، فبعيد كل ما ذكرته من استبداد وتسلط وطمع وشبق عظيم على النساء والسلطة والمال نافحت وقاومت وبهوادة كي تثبت ان المرأة الشرقية تعيش بكرامة وعدل ومساواة وعلى نقيض المرأة الغربية المتبخترة بسفورها وحريتها فيما هي منتهكة مضطهدة في بيتها وعملها وحياتها .
ناقص ان تقول بان امتلاك ابيها واشقائها لكل تلكم الجواري والاماء والزيجات والخدم والحشم لم يكن قط عبودية ذكورية تسلطية بقدر ما هي افعال مجسدة للعدالة والمساواة ولمشيئة الله وشريعته المنزلة من السماء وفي الشرق لا في الغرب .