كتب الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي يوما ما هذه السطور في النشيد الوطني لبلاده: "إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر." قبل نحو ثلاث سنوات تقريبا كان الناس في شوارع تونس ينشدون هذه السطور الشعرية الحماسية، ليتردد صداها في مصر ودول أخرى مع انطلاق ما يُعرف ب"الربيع العربي".
هذه الروح لا يزال يتردد صداها حاليا، لكن إرادة الشعب لم تعد تتمتع بنفس القوة التي كانت محركا للأحداث السياسية في أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
تغص ليبيا الآن بميليشيات متنافسة، وتواجه مصر مصاعب في رسم طريق جديدة نحو الديمقراطية، بينما تهز اليمن أعمال عنف مرتبطة بالقاعدة وفي سوريا صراع مشتعل يفاقم أزمة إنسانية هائلة.
ومع بدء شتاء قارس جديد، من الصعب أن يجد المرء عبق ثورة الياسمين التونسية التي أطاحت بحكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي استمر 23 عاما.
تصطف حاليا على طول شارع الحبيب بورقيبة، الذي كان مركزا للاحتجاجات السلمية في تونس، لفائف الأسلاك الشائكة لمنع المتظاهرين من التوجه إلى مباني حكومية مهمة.
حشود غاضبة وتمتلئ المقاهي الفرنسية المذهلة على طول الشارع بالرواد معظمهم من الشباب العاطلين عن العمل.
وفي يوم مطير شديد البرودة، تحولت مناسبة لإحياء ذكرى مقتل زعيم اتحاد نقابي بارز إلى احتجاج سياسي.
ورفعت حشود غاضبة امتلأت بهم شوارع العاصمة لافتات كتب عليها بالعربية "إرحل".
وهذه الشعارات، التي كان يطلقها المحتجون ضد نظام بن علي، توجه الآن للحكومة التي يقودها حزب النهضة الإسلامي.
وكان الحزب قد فاز بنسبة 40 في المئة في الانتخابات البرلمانية، وشكل حكومة مع حزبين علمانيين.
لكن التحالف الهش يواجه أزمة حاليا، وهناك محادثات تجري بشأن تشكيل حكومة تسيير أعمال وإجراء انتخابات جديدة.
وتجري محادثات على الطاولة للتوصل لمخرج من الأزمة، والقوى التقليدية القديمة لم تختف بعد.
لكن هذا ليس الوضع في مصر حيث أطيح بحكم جماعة الإخوان المسلمين بفعل قوة نفوذ الجيش واستياء شعبي واسع النطاق.
ولا يزال الجيش قوة نافذة تتحكم في زمام الأمور.
وبالرغم من تنحي الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح الذي حكم البلاد طويلا، فإنه لا يزال لاعبا فاعلا في الوضع السياسي في البلاد.
التغير الحقيقي ولا تزال تدور رحى معارك عديدة من أجل تشكيل توافق وإجماع بين مجموعة من القوى الإسلامية والعلمانية، ويسود في بعض الأماكن الدمار والقتل، وليس الحوار.
تغص ليبيا الآن بميليشيات متنافسة.
الأمر الذي تغير هو الصمت التام الذي استمر لعقود في الماضي، حيث أصبح الناس في جميع أنحاء المنطقة ومن جميع فئات وطوائف المجتمع يعبرون عن آرائهم حتى إذا كان ذلك يدفع بهم أحيانا إلى غياهب السجون.
وقال صحفي تونسي بارز لي "شيء واحد مؤكد، الشباب لم يعد خائفا من الشرطة والرؤساء أيا كانوا هم".
في أوائل عام 2011 في تونس، رأينا شارع الحبيب بورقيبة وقد تحول إلى ما يشبه "هايد بارك" حيث كان الناس يستمتعون بحريتهم الجديدة ويناقشون شؤونهم السياسية علنا.
وفي ليبيا شاهدنا المواطنون في وقت لاحق من العام نفسه يبتهجون حيث أصبح بإمكانهم أخيرا التحدث علنا مع جيرانهم دون الخوف من أنهم قد يكونوا عملاء للعقيد معمر القذافي، الذي قتل أثناء انتفاضة أطاحت بحكمه بعدما امتد لعقود.
وفي مصر، ساد إدراك مذهل في عام 2011 بأن "قوة الشعب تفوق قوة مَن هم في السلطة".
ولا أحد يتحدث الآن عن "ربيع عربي" مطلقا، فقد نبذت هذه العبارة منذ فترة، وأصبحت محل استهجان في بعض الأماكن.
قبل ثلاث سنوات، أضرم التاجر التونسي الشاب محمد البوعزيزي النار في نفسه بأحد الأسواق بمدينة سيدي بوزيد لتنطلق شرارة انتفاضات في أنحاء المنطقة.
وسترصد بي بي سي في أنحاء المنطقة الأسبوع القادم عن كثب حال أماكن وأشخاص صنعوا هذا التاريخ.
قبل أن أتوجه إلى تونس، جلست مع الناشطة اليمنية توكل كرمان، الحائزة على جائزة نوبل، للنظر في حالة التقدم الذي أحرز والحركة الاحتجاجية في أنحاء المنطقة، وكانت هناك بعض الآراء المحزنة والحقائق الصعبة، لكن الأمل لم يغب.
وحينما سمعت توكل أنني سألتقي برشيد الغنوشي زعيم حزب النهضة الذي يواجه مأزقا سياسيا داخليا، دونت سريعا بعض الكلمات له.
وبعد مرور أيام في تونس، شاركني الغنوشي جزءا منها، وقد تضمنت القصيدة التي تقول "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر".