كنتُ وما زلتُ وسأظل كذلك، أكره العنف والعراك بالأيدي أو أي شكل من أشكال العنف ولا أحب اللجوء إليه حتى في أشد الحالات سوءا أثناء خلافي مع الآخر، بل في الغالب كنتُ عرضه لعنف الآخر ولا زلتُ وعلى ما يبدو أن القادم أصعب فما نراه من تدهور أخلاقي وثقافي لا يبشر بخير.. هذا منهج حياة بالنسبة لي. أتذكر ويتذكر كل زملاء الدراسة وأساتذتي الأجلاء هذا الأمر ومعظمهم هنا يشاركنا يومياتنا على فيسبوك. خلال أثناء عشر عاماً- وهي عمري الدراسي كاملة- لم يصل إلى أي إدارة أو معلم شكوى ضدي، إنما كنتُ الضحية طوال هذه المراحل، مثلا فقد حدث خلاف ذات مره مع زميل وأشتد إلى أن بدء صديقي وزميلي بمرحلة الغضب و"كبكبة" الأيدي و"حشاط" الأكمام فأدركت صعوبة الموقف وكنتُ على يقين أن هذا الشيء الوحيد الذي يمكن أن أخسر فيه، فنظرت إلى السماء وقلت بصوت عالي اللهم أني صائم حتى أحاول أن أخرج بأقل الخسائر وأكسب تعاطف الآخرين الذين ينتظرون خسارة أحدنا وأنسحب بكل ثقة، هكذا نجوت بأعجوبة من هزيمة كدت أن أوقع فيها، وهكذا جعلت من رمضان سفينة نجاه للكرامة!
لا أنفك من الحيل واستحضارها كلما وقعتُ في مأزق من هذا القبيل، إلا أني مرة أخرى وبعد خمسة أعوام من الأولى، خصوصا بعد أن تركتُ البلاد - الشعيب - وسافرت! بالضبط في عنفوان الشباب، فُرضت عليّ مواجهه لم تكن بالحسبان وأيضاً لم يكن وقتها رمضان لأجد مخرجاً، وأنقطع حبل أفكاري حينها، لم أجد ما ينقذني من ذلك المطب الذي وقعت فيه..اضطررت "فكبكبت" مثل من "يكبكب" بالجهة الأخرى وبدأ الصدام فانتصرت، لم يكن الانتصار عن قوة بل محض صُدفة. ولكن لم تدم نشوة الانتصار طويلا،ً فلم يمض عليه أسابيع وإذ بي أقع في مأزق أكبر من الأول، ظننت أن الصُدفة مرة أخرى ستكون حاضرةً، إلا أنها خذلتني، قرح "الصميل" على رأسي وشفت نجوم السماء في عز الظهر . هكذا دفعني الغرور ونشوة الانتصار الوهمي إلى المواجهة الثانية، وهكذا كان مصيري، أستحق لأني لم أفكر ولو مجرد تفكير أن أكون حصيفا وعاقلا، ولم ألتزم بالمنهج السلمي المعتاد الذي تعودتُ أن أسير عليه، والذي ربما كنتُ من خلاله سأنتصر أخلاقيا على أقل تقدير وأكسب احترام العقلاء، ووفر عن نفسي شر الهزيمة!
هذه الهزيمة الأخيرة كانت بمثابة الدرس الأخير الذي علمني أن العنف في الغالب لا يؤدي إلى الانتصار، بل ربما أنهُ يجلب الدمار لأصحابه! .. وأنا أعيش تلك الهزيمة كنتُ أشعرُ بكارثية المأساة وما خلفته في نفسي وجسدي من آثار وآلام وخيبة.. تبادر إلى ذهني مأساة اليابان وهزيمتها الشهيرة، فكرت فيها كيف كانت أثناء الهزيمة؟ وكيف تبدو حاليا؟ قلت أذن الهزيمة ليست النهاية والعنف أيضا لا يعني الانتصار..انتصرت اليابان دون ان تلجأ إليه.
بدأت بترميم نفسي وإعادة الثقة إليها، وبدلا من التفكير بالعنف، للانتصار، لجأت لقراءة الكتب التي تعلمني المنهج الإنساني السوي، الذي سيكون طريق للانتصار الحقيقي والأبدي.. وأدركت أن الانتصار على الجهل هو الانتصار على كل شيء بما فيها العنف، لم أصل بعد إلى ما أتطّلع إليه ولكن هذا هو خياري الأخير في الحياة ومنهجي. طبعاً رغم أن جهلي ما زال وقصر فهمي ساري المفعول إلا أني قد حققت بعض الانتصارات التي أشعر بها كلّما رأيت غيري لا زال يدور في حلقة مفرغة، مستخدمّا العنف كمنهج له في هذه الحياة، يرى إن لا انتصار إلا من خلالُه وإن عدم إتباعه جبن وانكسار، فأراه ينتصر مرة ويخسر مرات، ويظل كما هو دون أن يستفيد من تجاربه، حاله حال الجماعات الإسلامية التي يعتبر التطرف والعنف منهجها الوحيد في مواجهة الآخرين.
أشعر بالفخر والانتصار لنفسي كلّما تذكرت أنني قد خرجت من مترسي كأسلامي أنظر إلى الآخرين على انهم أعداء، لقد خرجت من هذا المترس العتيق، إلى أن أقابل الآخرين بصفتهم كبشر مثلي يستحقون الحياة والحب والاحترام بعيدا عن حقد المعتقدات والأديان، البغيض، وهذا ينسحب أيضا على الانتماء الجغرافي والسياسي والمناطقي والقبلي. هكذا أخوض معركتي في خضم هذه الفوضى وأنا على ثقة أن هذا هو أقرب الطرق إلى النصر.