كل ما نتمناه في هذه الظروف العصيبة أن يوجد تناغماً وانسجاماً فكرياً وثقافياً متوازياً بين الشعبين في ما يسمى "شمال اليمن وجنوبه" ، وفقاً للتغيرات الثورية على مختلف أوجه الحياة العصرية التي تحرر فيها الإنسان من كل أنواع التبعية . فالشعب الجنوبي يفخر اليوم بثقافته قائلا : "نحن أصحاب القرار" .. وكان على الشعب في الشمال أن يتحرر هو الآخر في قراره ليسعى نحو بناء وطن السيادة والكرامة ، لا وطن تُرسم له السياسة من الخارج أو يَنتظر معونات الدول المانحة ل "الدول الفاشلة" . ولا يُعقل أن تكون مرجعيته السياسية هي المبادرة الخليجية الملعوب بها من قبل القوى السياسية ، وأن تبقى خزينة عصابة الدولة تنتظر معونات مالية خارجية مشروطة . وبالرغم من أن المبادرة الخليجية المزمَّنة قد جاءت لتضع حلاً لأزمة سياسية في مرحلتها الحرجة ، فإن القوى السياسية النافذة لم تعطي الشعب في الشمال أي فرصة للتفكير في ما ورد من معان في نصوصها الأساسية .. وللتوضيح ، يمكننا تلخيص كل ما جاء في المبادرة كالآتي : [حل الأزمة اليمنية من خلال تشكيل الحكومة " مناصفة " بقيادة المعارضة و منح الحصانة للرئيس اليمني علي عبد الله صالح - ومن كان معه خلال فترة حكمه - بعد استقالته وتسليم الرئاسة لنائبه ، وأن يؤدي الحل الذي سيفضي عن هذا الاتفاق إلى الحفاظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره . وأن يتم بعد ذلك إعداد دستور جديد ثم انتخابات برلمانية وحكومة جديدة ].
وفي تقديري أن القاسم المشترك الوحيد الذي في الفقرة الثانية جعل القوى المهيمنة في نظام صنعاء تقبل بالمبادرة هي العبارة التي وردت في فقرتها الثانية وهي : " أن يؤدي الحل إلى الحفاظ على وحدة اليمن وأمنه واستقراره " ، ولكنه ليس صعباً على أطراف الصراع الفهم بأن الوحدة المقصودة في النص هي وحدة اليمن المقسم على شكل "دول قبلية" داخل الدولة اليمنية .. دول واجهت بعضها الدولة المركزية في حروب تدخّل فيها وسطاء دوليين مثل دولة قطر في حروب صعده ، وتدخل مجلس التعاون وغيره في حرب الحصبة التي حولت الثورة اليمنية إلى مجرد أزمة .
فالمبادرة الخليجية لم تشر من قريب أو بعيد إلى قضية الجنوب لأن الأشقاء الخليجيين يدركون تماماً بأن الوحدة بين الشمال والجنوب ليست موجودة في الواقع ليتم "الحفاظ عليها" كما ورد في النص ، بل أن قضية الجنوب أكبر وأبعد وأعقد من مشروع مبادرة جاءت وفقاً لطلب أحد أطراف الصراع بنصها المعروف . ولا يوجد شك في أن دول مجلس التعاون تعي خطورة قضية الجنوب ، وتعي كذلك مسؤوليتها ودورها الدولي لحلها باعتبارها قضية احتلال دولة لدولة مجاورة .
ولذلك كان لا بد أن تتفق الأطراف الشمالية على الحيلة من خلال وضع آلية تنفيذية بمعرفة مستشار الأمين العام للأمم المتحدة ، ليشار فيها إلى "حوار وطني ، وحراك جنوبي" كورقتين تلعب بهما القوى السياسية القبلية النافذة للاستفادة منهما في إطالة عمر الأزمة الحالية ، لأن الشعب اليمني لم يعهد الحوار على مدى تاريخه المؤسَّس على الصراع القبلي المذهبي ، ولأن إدخال الحراك الجنوبي في الحوار ليس إلا "لقمة مسمومة" بالنسبة لشعب الشمال المغلوب على أمره في ظل الأزمة الحالية التي لن تنتهي إلا باستقلال الجنوب .
وخلاصة القول ، هل يستطيع البعض من شعب الشمال التخلص من الغباء المفروض عليهم بواسطة مرجعياتهم القبلية فيدركون بأن لهم حقوق وعليهم واجبات وطنية بمثل ما يسعى إليها الشعب الجنوبي ؟! .