من رحمة الله بنا ونعمه وكرمه وجوده علينا أن جعل لنا في تعاقب الأيام والشهور والأعوام مواسم تتجلي فيها الرحمات, وتُغفر لنا فيها الزلات, وتتزين لنا فيها الجنات, وتُرفع لنا فيها الدرجات, وننال فيها البركات, وتُستجاب فيها الدعوات, من هذه المواسم أعظم موسم مشهود, يفيض بالعفو والكرم والجود, إنه رمضان الذي ترمض (تحرق) فيه الذنوب, ويكثر فيه العتق ويفوز من سابق بجنة الخلود.
رمضان هلّ بنشوة الإسعاد للمتقين بجنة ورشاد فلنستعد له بقلب تائب مل الذنوب بلهفة العباد فالتائبون الأيبون ينالهم عفوا وإكراما مع الإمداد
رمضان محطة متجددة يتجدد معها أملنا بالقبول عند الله, وهو روضة وارفة الظلال دانية الثمار, تهفو لحط الرحال في ظلها نفوس الأخيار, وتشتهي الرتع من ثمرة الغفران فيها نفوس ظللتها سحب الذنوب والعصيان, وأينا صاف من الذنوب والعصيان.
إننا ونحن ندخل محطة رمضان يجب علينا أن نتوقف مع النفس وقفة مراجعة ومحاسبة, ومع واقعنا المر الأليم الذي ما كان له أن يؤلمنا ويجعلنا نستمرئه, لولا أنه انعكاسا طبيعيا لطبيعة معاملتنا طوال السنة مع الله القائل(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فما من شك أن الله سبحانه لا يغير الحال على عباده من الشدة إلى الرخاء, أو من الرخاء إلى الشدة إلا بحسب ما يتعامل به العباد معه سبحانه, فهو القائل ومن أصدق منه(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) ولقد والله صدق من قال:
داؤنا فينا ولو أنّا اعتصمنا بكتاب الله ما استفحل داء
إذا فما دامت السنن الإلهية تجري علينا وفق ما كسبته أيدينا فإن الله قد جعل فيما شرع لنا مفتاح الخلاص مما اقترفته قلوبنا وجوارحنا فهاهو سبحانه يوجب علينا الصوم شهرا كاملا ويجعل الحكمة من مشروعية هذه العبادة تحقيق التقوى قال سبحانه:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ذلك أن التقوى تمثل صمام الأمان للفرد والأسرة والمجتمع والدولة بل وللعالم بأسره فبالتقوى التي ملخصها الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل تسود حياة الناس الأمن والطمأنينة ووحدة الصف واجتماع الكلمة, بعد ما يجعل الله لهم من بعد عسر يسرا و من كل همّ فرجا و يرزقهم من حيث لا يحتسبون مصداقا لوعده وهو أصدق من وعد فقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) وقال:(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ولا يمكن أن يتحقق فينا وعد ربنا هذا إلا إذا جعلنا من رمضان محطة نتخفف عندها مما خف وثقل حمله من الذنوب والمعاصي التي بطئت بنا السير إلي الأمام, بل وضاعفت فينا الآلام, فالتخفف منها يكون بتوبة صادقة علامة صدقها ملازمة الطاعات طوال العام, ولن يتأتي لنا هذا إلا إذا أحسنا التهيؤ لرمضان بإعلان مصالحة عامة وشاملة مع الله الذي بارزناه بالمعاصي طوال العام, وكتابه الذي أنزله في رمضان ليكون لنا دستورا ونورا وهدي فهجرناه تلاوة وتدبرا وعملا وتحاكما وتحكيما طوال العام, ولم نفتقده لنتلوه إلا في رمضان, ثم مع الوالدين والولدان والأهل والجيران وعامة أهل الإسلام, ألا نخاف أن نكون ممن دخل عليهم رمضان وهم مصرين على معصية الملك العلام فصاروا ممن أمّن النبي صلى الله عليه وسلم على دعاء جبريل عليهم لما أتاه وهو يصعد درجات المنبر فقال : من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل : آمين فقلت آمين ...) أنرضي أن يكون النبي صلي الله عليه وسلم خصمنا في يوم تشيب لهوله رؤوس الولدان بسبب عدم تصالحنا مع القرآن مصداقا لما قال ربنا حاكيا شكوى النبي أمته إلى الله (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) ألا نخشى أن نكون بسبب عدم تصالحنا مع الناس وكف أذانا عنهم حتى في رمضان ممن قَالَ فيهم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ) ذلك أن أعمال العباد ترفع كل اثنين وخميس إلا المتخاصمين يقول الله انظروا هذين حتى يصطلحا كما صح بهذا الخبر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم, وبالمقابل ألا نحب أن يغفر الله لنا, ويُشفع فينا القرآن والصيام, فيقبلنا ويتقبل منا الإحسان ويعتق رقابنا من نار أوصدت أبوابها في رمضان, إذا فما علينا إلا أن نجد ونجتهد في طاعة الملك الديان, ونتبرأ ونبرأ إلى الله من موالاة الشيطان المصفد في رمضان وأولياءه من إنس وجان, فنوالي أولياء الرحمن لنساق في زمرتهم إلى دار زٌينت لخطابها وفتّحت أبوابها في جنة(تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) بارك الله لنا ولقرائنا وللمسلمين في أعمالنا وأعمارنا وفي سائر شهورنا وخاصة شهرنا رمضان وكل عام والجميع من الله أقرب وعلى طاعته أدوم.