خلال العقد الأخير، شهدت اليمن تطورات وحروب وصراعات، تنزلق معها البلاد كل يوم إلى وضع يعد الرجوع منه صعباً ومعقداً للغاية، في ظل غياب مشروع وطني سياسي واضح للأحزاب والقوى اليمنية، يمكنه من صنع توافقاً بينها تجاه القضايا الوطنية. وهذه الصراعات ولدت خصومات وضغائن لدى أكبر القوى السياسية اليمنية، وجعلت بعضها يتسلل إلى المشهد السياسي والعسكري ليثبت حضوره ويبسط سيطرته على أجزاء من البلاد، سواء في جنوباليمن أو شماله. وفي الوقت الذي باتت فيه الأحزاب ومراكز القوى السياسة اليمنية جزء من الأزمة، بدأت تظهر التحركات المشبوهة والمريبة التي تستغل حالة الفراغ السياسي لتحضر لإقامة ملتقى يمني قبلي في العاصمة الأردنية عمان عبر تنظيم مركز صنعاء للدراسات الممول من وزارة الخارجية الأمريكية. بديل سياسي خلفت الأحزاب والمكونات السياسية اليمنية فراغ كبير، وهو ما أتاح فرص البناء والإنشاء أمام اللاعب الإقليمي، حيث بدأت تحركات الاتحاد الأوروبي الدفع لإنشاء كيان غير معروف الملامح والأبعاد، غير أنه ملتقى قبلي يعد ليكون بديل سياسي ليملأ المساحة الشاغرة في الوسط السياسي اليمني، وليكون مشاركًا في بناء السلام حد زعمهم. هذا المؤتمر القبلي والمزعم إقامته وتنظيمه سيكون بدعم كامل من الاتحاد الأوروبي في سياق إنشاء كيان قبلي بدور مشبوه وأهداف غير واضحة ترتكز أساسا على استغلال حالة الفراغ السياسية وضعف الأحزاب اليمنية وتكلسها في تمرير مخططات إنشاء هذا الكيان القبلي الغريب في توقيت حساس يثير الكثير من علامات الاستفهام. يقول مراقبون للمشهد اليمني ان اقامة وتنظيم مؤتمر تحت مسمى مؤتمر قبلي لليمن ما هو إلا اسم فضفاض يخفي خلفه وورائه مشاريع تقسيمية وتحركاً واضحاً نحو الاستمرار في تقسيم اليمن عبر إنشاء كيانات وكانتونات التقسيم والتي تحظى بدعم وتمويل من جهات خارجية دولية في الاتحاد الأوروبي وأمريكا. واشاروا الى ان هذا المؤتمر واقامته في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ اليمن يحمل توكيداً جديداً الى ان مشاريع التقسيم وتمزيق اليمن تسير بخطى متسارعة في ظل غياب تام للأحزاب اليمنية والكيانات السياسية المفترض منها الحضور والتواجد في المشهد السياسي والحرص على عدم ترك المجال للكانتونات الصغيرة لملأ فراغها عبر إنشاء كيانات تحت مسميات متنوعة لن يكون هذا المؤتمر القبلي آخرها . عوامل الضعف الحزبي مع استمرار التفاعلات السياسية والعسكرية في اليمن، قد يكون من المهم أن يعرف القارئ بعضاً من تفاصيل الخارطة السياسية والحزبية في البلاد التي مزقتها الصراعات العسكرية والحزبية، لتشكيل صورة أوضح عما يجري، وتقديم فكرة عن فرص تم إهدارها، وأخرى يمكن اغتنامها للخروج من الأوضاع الحالية في البلاد حيث ظهرت الأطراف اليمنية مرتهنة لتأثيرات ورؤية اللاعب الإقليمي وصراعاته البينية، وبتحريك وإدارة من اللاعب الدولي الذي له مصالحه الخاصة ونظرته لطبيعة إدارة الصراع ومتطلباتها. يمثل موقف أطراف الصراع المحلي انعكاسًا لطبيعة الصراع الإقليمي، وهو ما يدل على ضعف المكونات المحلية في الالتقاء على مصالح مشتركة لليمنيين، وتقوية جبهتها بشكل مستقل، فكانت عوامل بناء الثقة بينها ضعيفة، وذلك لأن تركيزها على إدارة الصراع واستمراريته، رغبة منها في أن يلغي أحدها الآخر أو ينتصر عليه أو يفرض سياسة أمر واقع، أكبر من ميلها إلى التركيز على المشتركات التي يمكن الالتقاء عليها. فيما يرى مراقبون يروا أنه قد يحدث تغيير في إدارة الصراع في اليمن بآليات جديدة، خاصة مع تأثير التغيرات الدولية والانتخابات الأمريكية التي قد تساهم في مزيد من الضغوط السياسية، والتي ستجبر الجميع على الجلوس على طاولة واحده لإنتاج حلول. غياب الأحزاب غياب العمل السياسي والتنظيمي للأحزاب السياسية خلال السنوات الماضية أنتج وضعاً ملتبساً وبوصلة غير مضبوطة في مجمل الأوضاع، ولو أن الأحزاب السياسية مهما كانت المعوقات والمخاطر استمرت في نشاطها وفعاليتها المنوطة ولو بالقدر الممكن والضعيف لما طرأت على المشهد كل هذه التشوهات والكيانات والحركات الطارئة ، المنفلتة تارة والوهمية تارة أخرى. وبالنظر إلى مخرجات هذه الكيانات والمجموعات الناشئة لم تجد في أيٍ منها ما يبعث على الاطمئنان لا على المدى القريب ولا البعيد، إذ اعتمدت في الغالب العصبوية بجهويتها وجغرافيتها أساس انتمائها وكينونتها، وفي نماذج أخرى مشابهة طرأت حركات ومجموعات منغلقة ومشبوهة بأفكارها المتطرفة، وقد مثلت إساءة وقلقاً حقيقياً لحاضر ومستقبل البلد. شكلت الظروف الدامية بعد الإنقلاب والمقاومة الشعبية التي تصدت له هنا وهناك والدعم المباشر والمرتبك الذي تلقاه المقاومون للإنقلاب من دول التحالف، ساهم بقدر كبير في بروز ثغرات محدودة وقد أظهرتها مراحل ما بعد إعادة تشكيل نواة الجيش الوطني وتنظيم مسرح العمليات والقيادة في المحاور والمناطق العسكرية النظامية. وللأسف انبرت نسبة معينة من إجمالي فصائل المقاومة وقد تغلب عليها الطابع السياسي المزعوم بجوهره الديني والمناطقي والجهوي والقبلي ولم يعد لديها من فارق بين الإنفلات والفوضى والإنضباط والدولة، وبين مصلحة الجماعة والممول وبين مصلحة الوطن والدولة والشعب. فيما ظهرت ممانعة من الاستجابة والتفاعل لانخراط بعض الفصائل في عملية دمج المقاومة في الجيش الوطني بعد تشكيل النواة، فيما هناك حالات معينة من هؤلاء وقفوا في المنتصف في محاولة للظهور بوضع متوازن ما بين الدولة ومؤسساتها وبين الأجندات الأخرى التي تشدها دون ذلك، وهنا يأتي دور تسويق التبريرات والمعاذير الحقة والباطلة. بينما في نهاية المطاف لا هذه الكيانات والحركات والجماعات بأنواعها قدمت نفسها بديلاً للأحزاب بوضوح ودراية ومنطق، ولا حتى أظهرت بقدرٍ ما إمكانية تحولها إلى بديل أو ند سياسي مستقبلاً، بل بقيت تدعي السياسة في جانب وتناور بها وتحمل السلاح لفرض أجنداتها ورغباتها في جانب أخر وتستهدف السياسة والدولة وتشوهها. ولو ذهبنا للتدقيق في صوابية هذه الجزئية لوجدنا مثالاً حياً على أن الفراغ الذي تركته الأحزاب جميعها في موضوع العمل التنظيمي والجماهيري والتنشئة الفكرية من قبل أكثر من عشر سنوات، كان بمثابة فرصة سانحة ومكسب لصالح الاستقطابات الحوثية وما شابه، ليدفع الجميع الثمن بلا استثناء، فلا الأحزاب طلبت الفائدة ولا حافظت على رأس المال، أي أن الهوة الموجودة بين المستويات التنظيمية للأحزاب مع بعضها سمحت لعمليات الاختراق الضدية أن تنخر عميقاً في بُنى الأحزاب. بفعل الغياب والركود الذي بدت عليه الأحزاب السياسية في المحافظات والمناطق نتيجة الشلل الاختياري الذي أصيبت به في مستوياتها ومراتبها المركزية والأدنى لم يكن حال المنظومات الحزبية وتأثيرها وحضورها متماسكاً ومتخففاً من الالتباس والتوهان والشتات والتناقضات والأمزجة الشخصية لقياداتها وأعضائها في المواقف والاستقطابات وبلا ضوابط ولا محددات عامة وخطوط سياسية توجه خطاباتها وخياراتها مع كل شاردة وواردة، في مبعث خطير ومخجل وبلا قيمة. اليمن والجمهورية والمواطنة والعزة والحكم لن يعود لليمن بالمبعوث أممي ولا بتغريدات الساسة ومنشوراتهم التائهة، بل تحتاج الى نخب سياسية حاضرة وقادرة على احتواء المرحلة بخطورتها.