ليس عدلاً أن ننسى منطقة سقية وهي آخر مناطق مديرية رأس العارة وتبعد عنها قرابة خمسين كيلومتر ولأهلها مآسٍ كثيرة، فأرضهم ليست سوى صحراء لا ينبت فيها عشب ولا كلأ وهي مرآة عاكسة لبقية المناطق المجاورة، فالمعاناة متشابهة والأحوال بالغة التردي ًًًًًًوالناس في سقية بين صياد ذاق مرارة الزمن ، وشاب يعاني ويلات الفقر والحرمان ونساء وأطفال وعجزة لا يملكون إلا أن يكفكفوا أدمعهم بعد أن أخطأت البسمة الطريق إلى شفاههم، فهم لا يجدون صحة ولا تطبيباً ولا ماءً ولا كهرباءً ولا عملاً ولا تعليماً وحياتهم في مجملها جرداء عارية تعتصرهم فيها الآلآم. .. "أخبار اليوم" خصصت مساحة محدودة لمنطقة "سقية "ضمن زيارتها لمناطق رأس العارة علها تنفس شيئاً من كرباتها .
ما إن وضعت قدمي على أرض سقية حتى أفزعني منظر لبقايا بناء متهدم، فخيل إلي في بادئ الأمر أن أهله قد هجروه منذ زمن ، لكن من محاسن الصدق أن التقيت هناك بالشاعر الشعبي عوض راجح العطري والذي أعطاني صورة جلية وصادقة عن حقيقة ذاك البناء الذي وقفت أم امه وعندها فقط قتل الشك اليقين، عندما أخبرني أن تلك هي مدرسة سقية للتعليم الأساسي . الصورة أبلغ من الكلمات فالمدرسة بلا سور، بل فصولها بلا أبواب وبلا سبورات ولا كراسي ولا أدراج وأغرب ما فيها ما أخبرني به الشاعر عوض حين قال :لن تصدق لو قلت لك أن طلاب الصف الأول وطلاب الصف الثاني يشتركون في فصل واحد، فتعجبت وقلت له كيف ذلك؟ هل هذا لغز؟.. فأجاب: بل حقيقة وتفصل بينهم ستارة من قماش لدرجة انه في يوم الامتحان تختلط إجابات الطلاب الصف الثاني بمعلومات من منهج الصف الأول.. فهل هناك أسوأ من ذلك الحال؟. وحدة صحية خالية الوحدة الصحية في منطقة السقية هي مبنى خال من كل شيء وهذا ما أخبر به فهد علي عواجي قائلا:لا يوجد كادر طبي ولا عقاقير طبية ولا اسطوانة أكسجين ولا علاج حتى المطرش غير متوفر فيها. ويضيف : كذلك لا يوجد ممرض ولا قابلة واحدة في هذه المنطقة ولا حتى في مستشفى رأس العارة و بشكل عام الصحة في مديرية رأس العارة والمضاربة صفر، مؤكداً أنه شخصياً عانى من ذلك حين اضطر لإسعاف زوجته إلى عدن عندما كانت في حالة وضع حرجة، بعد أن رفضت الطبيبة المناوبة في مستشفى راس العارة معاينة الحالة.. ويتساءل عواجي: كيف يصنع من يمر بحالة مرضية وهو لا يملك المال؟. تخدير انتخابي بينما أنا أطوف في نواحي المنطقة برفقة صديقي الشاعر عوض العطري رأيت بجانب المسجد بئراً وهناك وجدت حولها أمة من الناس، لكن ماء البئر لم تكن كماء مدين، بل ملح أجاج، كما أن الناس لم يكونوا يسقون، بل يغتسلون بتلك الماء المالحة التي لم يجدوا سواها ليطهروا أجسامهم ويزيلوا أدران ثيابهم.. أما من أين يشربون فهذا ما أجابنا به الأخ ألون أمين إبراهيم قائلا:يسري على منطقة سقية ما يسري على غيرها، فهي تعاني من شحه الماء وقبل الانتخابات بفترة وجيزة بدأت عملية توصيل الماء إلينا عبر مشروع حكومي واستمر لمدة شهرين فقط، ثم جمدوا المشروع وقتلوا فرحتنا به والموضوع كان كله تخدير انتخابي وأصبحنا الآن نشتري مياه الشرب التي يصل فيها سعر القربة البلاستيكية سعة عشرين لتراً لحوالي ألف ومائتي ريال. حرمان مقصود يعتمد سكان منطقة سقية على البحر كمصدر وحيد للدخل، فغالبيتهم لا يشغلون أي وظائف في المرافق الحكومية، إلا ما قل في التربية والصحة.. وعن هموم المنطقة حدثنا عاقل السقية الشيخ/ صالح محمد صالح عبد لله قائلا: من أين أبدأ الحديث، فالمنطقة محرومة من كل مقومات الحياة ، فالماء معدوم والتعليم مشلول والخدمات الصحية تفتقر لأدنى الإسعافات الأولية وأكبر ما نعانيه هو إهمال المجالس المحلية لمتطلبات المنطقة وهموم أهلها . لحظة الغروب هناك على الساحل كانت قوارب الصيد تتمايل في المرسى وكان الصيادون ينتظرون إياب الشمس من مغربها، لينطلقوا في رحلة صيد باحثين عن أرزاقهم ومن بينهم سمعنا منادياً ينادي من مكان بعيد، فأجبناه فرحب بالصحافة ثم قال: نحن في سقية ليس لنا موسم صيد إلا شهرين في السنة وبقية الشهور جفاف ومع ذلك فإن شركات الاصطياد تجرف الأسماك صغيرها وكبيرها وتجرف مواطن تكاثرها وتتلف البيض والشعاب المرجانية والعشب، الأمر الذي يتسبب في هجرة الأسماك، إضافة إلى عدم امتلاكنا كاسر الأمواج الذي يحمي قواربنا من الرياح الموسمية التي تحطم القوارب ومعدات الاص طياد، وقد وجهنا مناشدات إلى وزارة الثروة السمكية واتحاد الصيادين والجمعيات لكن لم يجبنا أحد. تركناها للرمال غادرت منطقة سقية مع رواح الشمس تاركاً ورائي سكانها للرمال ينفثون فيها بؤسهم وشقائهم وهي لا تملك من أمرها وأمرهم شيئاً، فقد ترسخت في أذهانهم نظرة للحياة بأنها لم تكن سوى محنة ابتلي بها المخلوق البشري وللإنسان اليمني منها النصيب الأكبر من البلاء في الريف كان أم في الحضر.